تنتاب المرء حيرة إزاء الصعوبة العربية في تحديد ما المقصود بمصطلح "المثقّف"، ولا تكمن هذه الصعوبة في سبب تأخّر ظهور هذا المصطلح عربياً فحسب، بل بالأساس من كونه، كما يرى الراحل محمد عابد الجابري، مصطلحاً حديثاً وغريباً إلى حد كبير عن البيئة العربية التي وفد إليها من مهده الغربي.
وما أدق الجابري حينما وصف هذه الإشكالية في كتابه "المثقّفون في الحضارة العربية" بقوله: "بقي الإنسان العربي الذي يُوصف بأنه مثقّف لا يتعرّف إلى نفسه بوضوح، لا يعرف لماذا يُوصف بذلك الوصف"! لذا فقد كان مُحقاً حينما نبّه إلى ضرورة "بناء مرجعية لمفهوم المثقّف في الثقافة العربية"، مضيفاً: "وإلا فلا معنى للحديث عن شيء لا يرتبط بمرجعية. شيء معلّق في الفراغ".
وفي ظل هذه الضبابية المفاهمية، نتساءل: كيف يُعرّف المثقّف العربي نفسه بنفسه؟ قبل أن نُلقي نظرة أولية عن أهم التوصيفات العربية، تستحضرني عبارة مهمة للراحل إدوارد سعيد، شدّتني إليها مليّاً، حينما قال: "من أكبر أدوار المثقّفين في المجال العام هو أن يعملوا كنوع من الذاكرة العامة، أن يتذكّروا ما نُسي أو تم تجاهله. أن يُذكّروا الجمهور بالمسائل الأخلاقية التي قد تكون محتجبة خلف صخب الجدال وضجّته".
ولنقف عند هذا التعريف الكوني، الذي يتجاوز المفهوم الكلاسيكي الضيّق للمثقّف من كونه انحيازياً لجهة واحدة كما عرّفه سارتر بشكل مثالي أو من كونه منحازاً للطبقة العاملة بلغة غرامشي. هذا التشديد على الدور التذكيري للمثقّف وربطه بالواجب الأخلاقي تحديداً نجده أيضاً حاضراً عند عزمي بشارة الذي يعتبر أن المثقّف يتّخذ انطلاقاً من معاييره الأخلاقية مواقف نقدية تؤثّر في المجال العام، مضيفاً إلى هذا المركّب الأخلاقي النقدي، أيضاً ما سمّاه المركّب العقلاني التحليلي، الذي يُحلّل الحالة المجتمعية ويضع لها توقّعات عقلانية.
ضبابية مفاهمية لا تزال تكتنف مفهوم المثقّف عربياً
نحن إذاً أمام تعريف للمثقّف ليس كما يجب أن يكون عليه، بل كما هو عليه واقعياً، والذي يُلخّصه بشارة بشكل أوضح بتوصيفه للمثقّف على أنه "يستخدم المكانة الناجمة عن العمل في المعرفة لاتخاذ موقف يؤثّر في المجال العام". وهنا يُذكّرنا بشارة بالدور النقدي الذي كان يلعبه ما يُعرف بـ "أهل العلم" ـ أو على الأقل بعضهم ـ في عصور "الخلافة" الإسلامية، مؤكّداً في الآن نفسه تاريخية تشكُّل هذا المفهوم. وهذا ما يؤكّده أيضاً الجابري، الذي يعتبر أن الفلاسفة المسلمين كانوا المثقّفين الأوائل في سياق الحضارة العربية الإسلامية.
أكثر من هذا، يشير الجابري إلى ما يمكننا أن نسمّيه هنا بالتناص التاريخي بين المثقّفين عبر الأزمنة، من خلال وسيط الذاكرة، حينما يصف المثقّف وواجبه الذاكري: "المثقّف شخص يُفكّر انطلاقاً من تفكير مثقّف سابق: يستوحيه ويسير على منواله، يُكرّره، يعارضه، يتجاوزه". هي إذًا سيرورة مستمرّة لدى الذاكرة اليد الطولى فيها. فلا تناص من دون ذاكرة! بل ولا تفكير من دون ذاكرة! فالمثقّف في تفكيره الآني يستحضر الماضي قريباً أو بعيداً ليتعاطى معه راهنياً، ليتجاوزه أو ليعْبُر معه الحاضر نحو المستقبل.
فكرة هذا العبور بين الأزمنة نجدها أيضاً لدى زكي نجيب محمود، الذي يعتبر أن المثقف يتميّز بربطه بين الماضي والحاضر في تيّار متّصل. إنه إذاً الواجب الذاكري الذي يتميّز به المثقّف عن غيره إن عَمِل به سواء عن وعي به أو بدونه. والحق أن هذا المكوّن الذاكري لم يأخذ حقّه ضمن النقاش الفكري العربي لمفهوم المثقّف العربي في علاقته بمحيطه الثقافي، الذي ينتمي إليه بوصف هذا الانتماء شرطاً لا محيد عنه للمثقّف، فلا مثقّف من دون ثقافة، كما يقول بشارة.
إن الانتماء الثقافي هو أيضاً انتماء لذاكرة الثقافة، لذا أضيفُ: لا مثقّف من دون ذاكرة، بل ولا ثقافة من دون ذاكرة! لكن كيف هي ذاكرة المثقّف العربي، فردية أم جمعية كانت؟ أليست هي ذاتها تجسيداً لذاكرة الثقافة العربية بمختلف روافدها، والتي تختزن إخفاقات وهزائم وانكسارات لا تزال تتجرّعها؟ ليست الثقافة العربية ذاتها إلّا ذاكرة من الجروح تنكأ حاملها، أي المثقّف ذاته! وبلغة أُخرى: أليست معاناة المثقّف العربي هي ذاكرته ذاتها؟ يجيبنا عن هذه التساؤلات، ولو بصورة غير مباشرة، عبد الله العروي، الذي يصف الوضعية الحالية للمثقّف بأنها وضعية "الحيرة"، وهي فعلاً حيرة حضارية لا خروج منها إلّا بالتغيير المجتمعي جذرياً وواقعياً بلغة العروي.
كيف الخروج من الحيرة الذاكرية الجاثمة على تاريخنا؟
لكن هل بإمكان المثقّف العربي الخروج من هذه الحيرة الذاكرية الجاثمة على تاريخ المنطقة؟ كيف السبيل لانعتاق ذاكرتنا الثقافية المُثخنة بالانكسارات الفردية والجمعية، ولسان الحال يقول إنّنا نُحمّلها أيضاً أكثر من طاقتها؟ بل كيف يمكن للمثقّف "المُحاصَر من كل الجهات"، بعبارة هشام جعيّط، أن يفكّك حصاره المتعدّد هذا؟
لا يمكن للمثقّف العربي الخروج من الحيرة الحالية إلّا من خلال معالجته لحاضره الثقافي على المستوى الفردي والجمعي معالجة موضوعية تقف على مسافة نقدية كافية من موضوعات نقده، مسافة تمكّنه، كما يقول سعيد، من قول الحقيقة بلا مواربة وبلا حرج في نقد أي سلطة، وأن لا يتردّد في إحباط محاولة تغييب الماضي ضمن رهانات الحاضر، فحاضرٌ بلا ذاكرة، هو حاضر مزيّف، وسيفضي لا محالة إلى مستقبل أكثر زيفاً. لذا يؤكّد سعيد أن المثقّف هو ذاكرة مضادّة، بخطابها المضاد، الذي يحرّك الضمير ولا يسمح له بغض الطرف أو الخلود إلى النوم.
لذا يحق لي أن أشدّد على أن المثقّف العربي هو قارئ جيّد للتاريخ ومُفسّر واقعي للحاضر ومستشرف رصين للمستقبل. فقط بهذه الكيفية يمكنه معالجة ذاكرته الثقافية المثخنة بالجروح الفردية والجمعية معالجة نقدية حقيقية، وهذا هو واجبه.
إنه، ببساطة، ذاكرة لمن لا ذاكرة له.
* باحث من المغرب