عادةً ما تبدو الاعترافات حول حياتنا العاطفية محرجة، ولأكُن صادقاً مع نفسي، كان لي تاريخ مخزٍ في رحلتي للبحث عن الحُبّ، كنتُ - وبلا فخر - أجمع كلّ كُتب المواعدات في مكتبتي. ربّما لم تحتو غير تلك الكتب، وبعض مختارات من الشعر الرومانسي من مختلف العصور، وفي النهاية خبرتي في الحُبّ هي نفسها.
كانت مشكلتي تتلخّص في الخطوة الأُولى، من أين أبدأ؟ لكن مع كتاب ليفي كينغ "المواعدة للرجال"، الذي نصحني بأن أتحدّث عن المرأة التي أريد، كيف سيكون شكلها وأيّ خبرات تمتلك، خيّرني بين عشيقة وصاحبة، وزوجة وحبيبة تمضي معي نحو موتي، وعليّ أن أجيب عن أسئلة من نوع: بماذا تهتمّ المرأة التي تريد؟ بماذا تفكّر؟
ونصحني إن كنت أبحث عن بنت محترمة عالية الثقافة، متذوّقة للفن، أن أبحث عنها في المكتبات، وأنّ ركودي قرب البار في الحانات لن يجذب إليّ سوى النساء الخاسرات على الدوام، النساء اللاتي اعتدنّ البدء من جديد.
أخذت بنصيحة الرجل، وذهبت أجوب المكتبات، أبحث عن ضالّتي، وأخيراً طرقتُ باب مكتبة البلدية، وقدّمتُ نفسي باحثاً يبحث في النصوص العثمانية القديمة، أبحث عن شيء متعلّق بتاريخ بلدي، الذي حكمه العثمانيون في زمن مضى، يمكن أن أجده ضائعاً في تلك السجلّات المحمية خلف الزجاج.
تقدّمَت لي بنت بشعر قصير، مصفَّف على نحو هندسي، خطّ مستقيم يمتدّ على الجبهة كأنّه خوذة محارب روماني، ولم تترك لوجهها سوى كحل أسود، يليق بوجهها الحزين، قصيرة وتملك كفّاً حزينة أيضا، عروقها البارزة والمتفرّعة أخبرتنا بذلك، على الأقل هكذا أحسست. قلت إنّي أريد ما أريد، قالت تعال معي، ولم تنطق بكلمة أُخرى. أدخلتني المكتبة المحمية بتلك السجلّات الكبيرة القديمة، وأشارت أن أبحث عمّا أريد، ثم اتّجهت نحو النافذة، تنظر إلى اللاشيء، لم تفكّر أن ترجع لي بنظرة واحدة، ظلّت هناك كثيراً، وظللت لوقت طويل تجاوز الساعتين، أتظاهر بأنّي أبحث عن شيء، ساعتان وهي تطلّ على النافذة، ولم تتكرّم عليّ بنظرة، قلت في نفسي: يا عم ليفي كينغ هل تعلم إلى أين أوصلتنا نصائحك؟
ثم فجأة، تحدّثَت وبسرعة عن كونها فاشلة، رغم أنّها تبدو بنتاً محظوظة، لم تكمل دراسة الهندسة دون سبب منطقي، ورغم ذلك حصلت على وظيفة جيّدة في البلدية، وظيفة تخلو من أي جهد أو مشقّة، تُراجع سجّلات بسيطة بشكل شبه أسبوعي وبراتب معقول، ثم شعرت بالبؤس، وطلبَت أن تنقل إلى المكتبة، وهي الآن غير راضية عن ذلك أيضاً. تتحدّث عن كونها فاشلة وغير نافعة لأي أحد.
قلتُ قاطعاً اعترافها المليء بالسأم، الذي لن ينتهي بنا إلى شيء:
- أي كتاب تقرئين؟
- في حياتي كلّها أقرأ كتاباً واحداً لم أنتهِ منه بعد.
- أيّ كتاب؟
- الكتاب الأشدّ حزناً في البرتغال؛ "اللاطمأنينة" لبيسوا.
ولم تتحدّث بعدُ بشيء.
خرجتُ من مكتبة البلدية نحو أقرب مكتبة، واشتريت كتاب بيسوا.
وقلت: فلنعرف لماذا أحال هذا الكتاب إنساناً لطيفاً لهذا البؤس.
فقرأتُ أوّلاَ: "لستِ امرأةً. حتى إنّك لا تُوقظين فيَّ شيئاً أختبره بوصفه أنثوياً. فليس إلّا حين أتحدّث عنك تُسمّيك الكلمات التي أستعين بها أنثى".
ثم قرأت: "حين أحاول أن ألمس سترك، تستنفد كلماتي كلّ طاقة الجهد الذي أبذله لأصل إليك، وتعبٌ شديدٌ مؤلمٌ يجعلُ كلماتي جليداً كتحليقة طائر يبدو أنه يقترب، ولكنّه لا يصل بتاتاً، ذلك التعب بعينه".
ما زلتُ أزور المكتبات، وأقتني الكتب، لكنّي وبعمري هذا، الذي يقترب من الخامسة والخمسين عاماً، لم أقرأ كتاباً آخر سوى كتاب بيسوا ولم ألتقِ بالمرأة التي بحثتُ عنها في كتب المواعدات تلك. لم أكن أعي أنّ حياتي دخلت في ممرّ السأم هذا منذ أن قابلت - قبل عشرين عاماً - أمينة المكتبة التي لم أتجرّأ على زيارتها منذ ذلك الحين.
* كاتب من العراق