أقيمت عند السادسة من مساء أمس الأحد في مكتبة "جامعة جورجتاون" بالدوحة جلسة نقاشية تحت عنوان "القضية الفلسطينية: مقاربات ثقافية"، بتنظيم من "نادي الكتاب العربي" بالجامعة، وتحدّث خلالها كلّ من الباحثين والأكاديميين عماد عبد اللطيف وفرح عريضي ورامي أبو شهاب والمخرج بشار حمدان، وأدارها الباحث والأكاديمي عمر خليفة.
أشار أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب عماد عبد اللطيف إلى أن حروب الخطاب بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية بدأت قبل الصراع المسلح واستمرت أثناءه وستبقى بعده، وهي تتسم حالياً بصفات عدَّة، منها أنها اتسعت لتشمل العالم كله، بفضل انخراط معظم شعوب العالم في الدفاع عن حق الفلسطينيين في البقاء، وشرعية مقاومتهم للاحتلال، كما أنها تُدار في الوقت الراهن في فضاءات رقمية وافتراضية بالأساس، ولم تعد محسومة النتائج بفضل تراجع تأثير التلاعب الشامل الذي مارسه الاحتلال والقوى الداعمة له، واتساع دائرة تداول السردية الفلسطينية التي تُقدم الحقائق والوقائع الدقيقة بشأن الصراع.
وانتقل لتحليل خطابات المتحدث العسكري للمقاومة الإسلامية "حماس" أبو عبيدة، نظراً لاتساع تداولها، ودرجة تأثيرها، في تركيز على تقديم الدلائل على قوة المقاومة وضعف العدو، إلى جانب خطابات مديري المستشفيات ومراسلي القنوات التي ركزت على آثار التدمير والإبادة، مبيّناً أن هناك أربعة عوامل خطابية ساهمت في أسطرة شخصيته.
تحدّث في الجلسة الباحثون عماد عبد اللطيف وفرح عريضي ورامي أبو شهاب والمخرج بشار حمدان
الأول هو حالة الغموض التي تحيط بشخصيته، والتي تحفز الخيال الجمعي على استكمالها، بحسب عبد اللطيف الذي لفت إلى أن غياب معلومات دقيقة عن عمره، وصورته، وحياته أضفى طابعاً سحرياً على شخصيته، وزاد من ذلك أن بعض المعلومات المتوافرة بشأنه تدخل في حالة تعارض مع ما يتبدى عنه، فصوته صوت شاب في أوائل العشرينيات، في حين أن بعض المعلومات تشير إلى أنه في الخمسينيات. وهذا الغموض مؤثر بشدة في بناء الأسطورة.
وأضاف "العامل الثاني الذي ساهم في بناء الأسطورة هو فعل التمسرح الذي صاحب خطب أبو عبيدة. فالقناع، والرموز والأيقونات مثل الأعلام والوشاح، والعبارات المختارة بعناية أعلى الشاشات كلها ساهمت في مسرحة خطبه، وجعلها مثيرة للخيال والإدهاش".
ورأى عبد اللطيف أن العامل الثالث متصل بنبرات الصوت وقوة الكلمات، ففي الوقت الذي كانت الشاشات تصور العدو يضرب بكل ما يملك من بطش وقسوة، وأن ضرباته ربما توهن العزم وتشل الإرادة، كانت نبرة الصوت الراسخة المتحدية لأبو عبيدة، وكلماته القاطعة الصارمة تصنع مفارقة محفزة على بناء متخيل شعبي للبطل الأسطوري. فالبطل الصامد بإباء وقوة في ظروف مهلكة يُحفز مخيلة الجماعات على بناء أسطورة له، شبيهة بأساطير أخرى صنعها لأبطال مشابهين مثل: عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي والظاهر بيبرس وغيرهم. فهؤلاء جميعاً بنوا بطولاتهم على أرضية دورهم بوصفهم مخلصين لشعوبهم.
وختم بالعامل الرابع المتعلّق بتناصه المتواصل مع خطب القتال في التراث العربي، لا سيما زمن الصحابة، وتستعمل فصحى رصينة قريبة من فصحى التراث، منطوقة بحركات إعراب دقيقة، تُذكر بلغة العرب الأوائل على نحو ما يُعاد إنتاجه في الأفلام والمسلسلات، وهذه الصورة لأبو عبيدة تجعله نفسه واحداً من أهل الله بالمفهوم الشعبي، وتلك خطوة أساسية لصناعة الأساطير في المخيلة الشعبية.
استعرضت الأوراق موقع الثقافة في النضال الفلسطيني، وخطاب المقاومة، والتعبيرات الفكرية والفنية حولها
ونبّهت أستاذة الأدب المقارن فرح عريضي إلى حتمية جعل الكتابة الإبداعية والبحثية على حد سواء كممارسة الرأي والقيم والتطلعات ومشاريع الحياة؛ أي جعل النظريات عملية والكتابة ممارسة، مضيفة "تعلمنا كثيراً من رفاقنا ومعلمينا وكتابنا الفلسطينيين خصوصاً، والعرب، وغيرهم أن المقاومة طريق طويل وشاق، وجدوى مستمرة، ومسيرة ثقافية ووجودية أيضاً".
وأشارت إلى أنه لطالما كرهت المطالب التي تفرض علينا الشعور بالقوة طوال الوقت، نحن أحياناً لسنا بخير ولسنا أقوياء، وذلك لا يقلل من أهمية وأحقية مقاومتنا أو يقلل من شأنها، ولكن نكران مواقف كهذه، وعدم إعطائها حقها له تأثير على كيف نرى المقاومة ونفهمها، وبالتالي كيف نمارسها وخاصة كيف نكتب عنها ونكتبها".
أما أستاذ النقد الأدبي الحديث رامي أبو شهاب، فأشار إلى إشكالية تتمثل بموقع فلسطين في الدّراسات ما بعد الكولونياليّة، فثمّة أزمة خطابية، كما ثمّة تشتت على مستوى التّعبيرات الممثلة للفلسطينيين الذين ينتشرون في غير مكان من هذا العالم، بالتوازي مع بروز تحدّيات فيما يتعلق بالفلسطينيين من حيث قدرتهم على تمثيل أنفسهم في الخطاب المُتخيل، كما حضورهم في الثّقافة العالمية، وإيصال صوتهم في لغات أخرى، حيث يبدو الفلسطينيون صامتين أمام المرويّة الصهيونية.
وتابع "إننا مدفوعون بطريقة أو بأخرى لمناقشة أهمية الخطاب المنتج من قبل الفلسطيني المشتت، وهذا يشمل قضايا عدة، منها ما يتعلق بالكتابة، والمتخيل، والإبداع، كما الترجمة التي تعنى بنقل الصّوت الفلسطيني إلى المنصّات الإنسانية. أضف إلى ما سبق مشكلة أخرى تتعلق بالوجود الثقافي، ولا سيّما من ناحية تحدّيات الكتابة التي تنهض على العمق، كما الجماليات، وطبيعة القضايا المطروحة، وأنساق التّمثيلات لمقاومة إقصاء الهويّة الفلسطينيّة الثّقافيّة، وهذا برمته يضعنا أمام تحدّيات فيما يتعلق ببناء الخطابات الفلسطينيّة وتشكيلها، والتي تبدو تعبيراً عن هوية مُشتتة في الأصل، بالإضافة إلى أنها تتعرض إلى التّخريب، والإقصاء الممنهج".
ولفت إلى أن التّشكيل للثقافة الفلسطينيّة في ضوء الاحتلال الإسرائيلي بوصفه عامل حسمٍ في توجيه الهويّة الثّقافية الفلسطينيّة، مع الإشارة إلى أثر "منظمة التحرير الفلسطينيّة" بوصفها مؤسسة منتجة وراعية لثقافة فلسطينيّة، وهذا جاء رغبة بخلق بنى ثقافية فلسطينيّة بوصفها نسقاً متعالياً (تاريخياً)، مضيفاً "نرى التحول في روايات جبرا وغسان كنفاني ورشاد أبو شاور، كما في الشعر الفلسطيني والفن، ومن ثم بدأت نحو صيغ أكثر برودة، كما أننا يمكن أن نلمح هذا في السنيما على سبيل المثال، ولكن هذا لا يتمكن من نبذ تيارات أخرى ذات طبيعة أيديولوجية؛ مما يعني أن الطابع الجدلي كان الفاعل الوحيد لعدم تصفية القضية الفلسطينية، وتراجعها.
من جهته، تحدّث مخرج الأفلام الوثائقية بشار حمدان عن تاريخ السينما الفلسطينية، مستعرضاً أبرز نماذجها، ومضامين أفلامها، والمراحل التي مرّت بها، وكذلك عن فقدان الأرشيف السينمائي الفلسطيني أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، متوقفاً عند تجربة المخرج السينمائي الفرنسي جان لوك غودار، ومنهجه في صناعة سينما ثورية فلسطينية.
وتناول علاقة غودار بهذه الصناعة من خلال فيلمه "هنا وهناك" (1976) بالاشتراك مع آن ماري ميفيل، الذي يعبّر عن مقاربة جديدة في علاقة السينما بالسياسة، من خلال طرحه مجموعة من الأحداث التاريخية في أوروبا والعالم العربي وصلتها بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.