القسطنطينية: سكنها المسلمون قبل الفاتح وفقدت سلطانها قبل السقوط

11 يونيو 2022
"دخول الصليبيّين إلى القسطنطينية" لـ يوجين ديلاكروا (Getty)
+ الخط -

احتفلت الجمهورية التركية قبل أيام بالذكرى 569 لدخول السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية، وتحولها إلى عاصمة للسلطنة العثمانية، وقد يظن ظانٌّ أن الوجود الإسلامي في المدنية مرتبط بدخول العثمانيين إليها، ولكن النصوص البلدانية والرحلية العربية تظهر عكس ذلك، فقد كانت تعيش في القسطنطينية جالية مسلمة كبيرة لها مساجدها وأسواقها وأحياؤها، وتحظى باعتراف رسمي من الإمبراطور البيزنطي.

وصاغ الجغرافي الدمشقي ابن فضل الله العمري، قبل فتح القسطنطينية بأكثر من مائة عام، نصاً جمعه شفاهاً من عدة مصادر معاصرة له حول عاصمة البيزنطيين، أضاءت جوانب مهمة غفلت عنها المصادر التي سبقته، حيث اعتمد أغلبها على نصوص مبكرة تعود للعصر العباسي الأول. وفي هذا النص، نرى تقلص مساحة المملكة البيزنطية إلى منطقة القسطنطينية فقط، حتى إنه كان يسمي الإمبراطور البيزنطي بملك القسطنطينية، وذلك بعد أن فقد جميع ممتلكاته على الجانب الآسيوي من إمبراطورتيه، وكذلك على الجانب الأوروبي.


إسطنبول وقديماً بيزنطانية

وينقل العمري عن بلبان الجنوي، وهو شخصية إيطالية اعتنقت الإسلام ودخلت في خدمة سلاطين المماليك، قوله: "أما مملكة القسطنطينية، وهي الآن تسمى إسطنبول وقديماً بيزنطانية، فإنها كرسي مملكة الروم، ولملوكها التقدم على جميع ملوك عبَّاد الصليب، ومن أهلها الملك القائم القديم، وكانت لهم اليد العليا على بني المعمودية، وجميع طوائف العيسوية".

ويشير إلى أن مؤسسها هو قسطنطين، وأن الفرنجة سيطروا عليها فترة، قبل أن تعود للروم. ويعلق على ذلك بقوله: "والفرنج تزري بالروم لخروج ملك الشام عنهم، وتعيِّرهم بغلبة العرب عليهم، يعني في مبدأ الإسلام، وتعيبهم بهذا، وتوسعهم الملام".

ويضيف الجنوي: "ومع هذا، فلا يسع ملوك الفرنج إلا إجلال هذا الملك الرومي، وتوفيته حقه من التعظيم، وعساكره مائتا ألف فارس مُدَيْوَنَة (أي مسجلة في الدواوين)، ما فيهم إلا صاحب إقطاع أو نقد، وأرزاقهم لكل واحدٍ منهم في السنة مائتا دينار إلى ألف وخمسمائة دينار، وفيهم من يبلغ ألفي دينار، والدينار اثنا عشر درهماً، وهو درهم ينقص عن البندقي بقليل، والدينار ما هو دينار مسمى، بل حقيقة دينار مسكوك من ذهب مغشوش، فلهذا نقص ثمنه".

ويقول إن الإمرة عند الروم محفوظة في بيوت قديمة، يتقدم في إمرة كل واحد منهم يتوارثها كابراً عن كابر، ويورثها أول لآخر. وفي هذا إشارة إلى طبقات النبلاء التي كانت تسيطر على الحياة العامة عند البيزنطيين شأنهم شأن الممالك القديمة جميعاً.


مراسم الدخول إلى الكنيسة العظمى

ويلفت بلبان الجنوي إلى انفراد ملك القسطنطينية بالتقدير المعنوي بين جميع ملوك المسيحيين، فهو "يركب في كل يوم إلى الكنيسة العظمى بها، ومعه البطريرك، ويقف على كل باب من أبواب الكنيسة، على كثرة أبوابها، فرس للملك وبغلة للبطريرك".

ويتابع واصفاً مراسم الدخول والخروج إلى الكنيسة، والتي يسميها الشعار: "وشعار سلطنته كامل بجميع ما يحتاج إليه الملك، بما لا بد للموكب الملوكي منه، فمن أي باب خرج من أبواب الكنيسة، هو والبطريرك ركبا، وسار الملك في أبهة الملك التمام، وشعار السلطنة الكامل، بما كان معداً له على الباب الذي خرج منه مثل ما كان معداً على بقية الأبواب، وعلى كل باب منها نظير ما كان على الباب الذي خرج منه الملك، وسار بشعار الملك الكامل".

وحول الأزياء التي يرتديها الملك وأهل القسطنطينية يقول: "للملك ميزة يتميز بها، وهو أنه لا يلبس أحد في مملكته جميعها خفاً أحمر غيره، وزي الروم في لباسهم من نوع زي الأتراك والمغل من الأقبية التترية والمحضرة، خلا أن الكبائس على رؤوسهم متسع مرحرح، كأنه الطبق، ويشدون في أوساطهم المناطق والسيوف، ومناطقهم ثقال، وسيوفهم كالسيوف المغربية، أخف من العربيات، وعلى أشكالها، ولباسهم الجوخ والصوف والحرير الأطلسي والديباج وسائر أنواع الحرير".


قصران ملكيان

ويخبرنا الجنوي بمعلومة غريبة حول وجود دارين للملك، واحدة قديمة والأخرى جديدة، فأما القديمة فـ"خارجة في كبد البحر، ذات حارات طوال ودهاليز بعيدة نائبة، وفي جانبيها تماثيل نحاس على صورة الإنسان وسائر أنواع الحيوان، وفيها صورة فرسان على خيل وحيوانات وأشكال أخر، وكلها أكبر من الحيوانات المعروفة بما يزيد زيادة ظاهرة على الأشكال الطبيعية، وهي في غاية الصنعة والأحكام بالنقوش العجيبة والتخاطيط الغريبة، ولا يعرف هل عملت لظاهر الزينة؟ أو لباطن من الحكمة؟ وهي دار عظيمة هائلة البناء، بعقود منتظمة وأبنية رفيعة واسعة رحبة مفروشة بالرخام الأبيض، والمجزَّع، والملوَّن، وضروب من المسن الأخضر".

ويؤكد أن الملوك لا يسكنونها، بل يتشاءمون بها، ويقولون إنها مسكونة بمردة وفساق الشياطين، وأما الدار الأخرى فهي التي يسكنها الآن الملوك، وهي على جلالة مكانها، وفخامة قدرها، لا تقارب القديمة، ولا تدانيها في الإمكان والتشييد ورونق التأنيق والتنميق.


حالة وهن وتخاذل

وحول علاقة ملوك القسطنطينية مع مملكة القبجاق المغول المجاورة لهم، والتي انتزعت منهم الكثير من الأراضي، يقول إن ملوك القسطنطينية يؤدون لملوك القبجاق القطيعة، وهي إتاوة سنوية كبيرة، ولكنه يشير إلى أن زواج السلطان أزبك خان من الروم ساهم في وضع أثقال تلك القطيعة عنهم، وأُصُر تلك الإتاوة.

ويصف العمري حالة الوهن التي وصل إليها روم القسطنطينية بقوله على سبيل السخرية: "جنودهم عدد بلا نفع، قلت: وهذا هو المشهور عندهم في كل زمان ومكان، والمأثور عنهم أنهم وإن كانوا ذوي عدل، ليسوا من الشيء شيء وإن كانوا، وإن هان أقوى اعتدادهم المخمر والخمير وأوفى حبهم الديباج والحرير، ما فيهم ضارب إلا بجنك أو عود، ولا طاعن إلا بين أعكان ونهون، ولا يشربون دماً إلاَّ من فم إبريق جريح، ولا يرون قتيلاً إلا شخص زق طريح، ولا لهم وقائع إلا في ملبقات الصحاف، ولا مواقع إلا بين فراش ولحاف".

ويضيف بالنبرة الساخرة ذاتها: "لا يعرفون العجاج إلا من دخان عنبر، ولا أثر السيوف إلا في ثغر شنيب كأنه عقد جوهر، ولا مقام إلا في مجلس راح، ولا اهتمام إلا بمجلس أفراح، ولا التماس إلا لغبوق أو اصطباح، ولا اقتباسة إلا مما تتوقد ناره في كأس أو يقتدح من أقداح، ما منهم راكب جواد إلا اللذة، ولا صاحب جهاد إلا في فرضة مستلذة، ولا عوال تلعلع أسنتها غير الشمع، ولا عويل إلا مما يتخير من مآقي الغيد من الدمع".

 
أصحاب خيل

ينقل عن بلبان الجنوي قوله إن الروم غير مشهورين بركوب البحر "ولا عادة بركوب السفن، وأبعد سيارتهم فيه إلى مواضع النزهة، وإنما هم أصحاب خيل، ولا تعد خيلهم في جياد الخيل، وإنما تجلب إليهم كرائمها من بلاد الأتراك من قاطع الخليج، وإنما بغالهم تباع بغالٍ".

أما مزارعهم فيقول عنها "كلها أرض جيدة صالحة للزروع والثمار، ولها نهر متوسط المقدار، عليه مساقي زرع وأشجار، والأرزاق بها كثيرة الوجود، والرطل القسطنطيني نظير الرطل المصري، وكيل الطعام بها المسمى مدني، هو حمل جمل يكون أردبين ونصف بالمصري، وبه تباع الغلال الكثيرة، فأما القليل منها، فيباع بالرطل".


آلة الأرغن

ويقول إن الملك لا يفارق مجلسه الطرب، ويضرب له بالآلة المعروفة بالأرغل، ويقول العمري إنها آلة ذات وضع عجيب وألحان غريبة مطربة تأخذ بمجامع القلب، ويضيف: "وقد رأيت هذا الأرغل بدمشق ثم في القاهرة فقلت هذا للضارب به، فقال لي: هذا أرغل صغير يفكك ويحمل، وما معه أصوات تسير له الضرب، والذي يضرب به لملوك الروم البحر الكبير مستقر في مكان لا يزايله، وله عدة من أصحاب الأنغام المطربة، تسير له، وله بذلك رونق لا يكون في مثل هذا. وصورة الأرغل خشب مركب، وله بكر نحاس وأوتار شريط نحاس، ونحر بمثل كور الصائغ، ونغمة شبيهة بالآلة التي تسمى القانون".

وحول عادات ملوك القسطنطينية، ينقل العمري معلوماته عن الأمير آقسنقر الرومي، وهو أحد أمراء الأسرة الحاكمة بالقسطنطينية، ولكنه أسلم ودخل في خدمة سلاطين المماليك، ويقول العمري: "سمعته يبالغ في تعظيم شأن ملوكهم، ويصفهم بحسن الموافقة والمراعاة لمصالح أولياء دولتهم ورعاياهم. وإن عادتهم جارية بأنه إذا من مات من أمراء الروم جرى على أكبر أولاده ما كان يجري على أبيه، فإن لم يكن له ولد كان على أكبر أهله، فإن انقرض تصرف الملك فيه برأيه، فإن ترك الميت أولاداً لا يقوم بهم ما كان لأبيهم ولا يكفيهم إذا توزع عليهم جرى على الأماثل ما كان لأبيهم، ونظر في حال البقية".

ويضيف: "وعادة هؤلاء الملوك ألا يعطى ولد أمير رزقاً من جهتم ما دام أبوه حياً يرزق، بل ارتزاقه مما لأبيه، وإن أراد الملك أن يعطيه شيئاً أعطى لأبيه مقدار ما يريد أن يجعله لابنه، ثم أمره أن يجريه هو على ولده من جهته لا من جهة الملك".


سلطة البطريرك

ويطنب أقسنقر الرومي في الحديث عن عدل ملوك القسطنطينية ورفاهية أهل مملكته، ولكنه يؤكد هو وبلبان الجنوي أن الحاكم الفعلي هو البطريرك "لأنه لا معول إلا على رأيه، ولا يفصل حكم إلا بقضائه وله رزق عظيم، يعدل معدلة دخل إقليم، وإليه أمر الكنيسة العظمى، وسائر الكنائس والديارات، ويحصل لها في كل سنة أموال جمة طائلة من الوقوف والنذور والقربانات والتحف، ومهاداة الملوك والكنود والتجار".

ويشير إلى أن بلاد مقدونية وما هو مضاف إليها، وفي قديم الزمان مصر كلها بأسرها إلا الصعيد الأعلى، هي أوقاف لكنيسة آيا صوفيا، ويستطرد العمري بقوله: "الروم تبالغ في تعظيم هذه الكنيسة وتعتقد في كرامتها، وينقل من التواريخ أن بها كان اجتماع قسطنطين على التدين بدين النصرانية، وأن عقد الاتفاق كان على المذبح بها، وفيها ما يقول صليب الصلبوت، وعصا موسى، وزنار مريم، ومسح المسيح مما يقال إنه صار إليها من طليطلة".


الطين المختوم

ويعرج العمري للحديث عن الطين المختوم المجلوب من القسطنطينية، وهو طين يستخدمه أطباء ذلك العصر لغايات علاجية، ومعروف على نطاق واسع، حيث يقول: "رأيت أطباء الزمان، ومنهم بالديار المصرية رؤساء أفاضل وعلماء لا تقصر عن درجات الأوائل، ما فيهم من يثبته على التحقيق، لكنها تستحسنه، وتقول هو طين مليح يحصل به القصد، ويتوقف، ولا يجزم بأنه هو الطين المختوم، ويقول الطين المختوم طين عمل وطبع وختم على عهد جالينوس".

ويحاول أن يشرح كيفية صنعه "يقال كانت امرأة في جزيرة في البحر تجلس على هيكل على قراره أو بركة يأتيها السيل، فتذبح هناك التيوس على سبيل القربان في وقت معلوم من السنة، ويؤخذ من التراب مما جف عنه السيل وجمد عليه الدم، وقالوا: إنه يُجبل بالدم في طالع مخصوص، ويقرص أقراصاً، ويطبع بطابع متخذ لها، ومنهم من يقول إن فعله إنما هو لخاصية تلك البقعة، ومنهم من يقول للطالع المخصوص، ومنهم من يقول بل لشيء أفيض عليه في الهيئة الاجتماعية".

ويتابع: "هذا الطين المختوم المجلوب الآن هو على نوعين أبيض ونوع أحمر، فأما الأبيض فمنه أغبر ومنه شديد البياض، أما الأحمر فمنه وردي ومنه ما يشوبه سواد كأنه لون المغرا أو طوابعه مختلفة، وهذا الاختلاف مما أوقف الأطباء عن الجزم به، أنه هو هو ولأنه لم يجدوا فيه كل ما ذكرت القدماء في أوصافه".


أوضاع المسلمين

أما موقع القسطنطينية؛ فينقل العمري عن آقسنقر الرومي وبلبان الجنوبي وعلي بن بلبان الجلبي قولهم إنها "على جزء من البحر، يدخل منه ماء إلى الميناء في جانب القسطنطينية، ويدخل سورها، والتجار والسفارة من سائر الأقطار من المسلمين والنصارى وغيرهم، يأتي إليها وينزل بها، ويبيع ويشتري فيها، ولا حرج عليهم ولا تضييق".

وحول وضع المسلمين فيها، يقولون جميعاً إن "المسلمين فيها على جانب إعزاز وإكرام، فيها سكان من المسلمين يسكنونها إلى اليوم (1329م)، لا يمسهم ولله الحمد ذل ولا هوان، ولهم مساجد وأئمة تصلي بهم الجماعة، فتظاهر فيها بشعائر الإسلام، وللملك اهتمام بكف الأذية عنهم، وإذا شكى المسلم إليه على أحدٍ من النصارى، ولو أنه من عظماء البطارقة، أشكاه وأنصفه منه، ولا اضطهاد، ولا ضيم في جميع مملكة هذا الملك عليهم ولو تغيرت الملوك، واختلفت الأحوال، لا يقدر الملك على تغيير حاله في هذا، ولا مخالفة لمن تقدمه فيه لأنها عادة تدين بها ملوكهم، وسارت بها ملوك النصرانية سيرهم، فلو عدل الملك عنها، لمنعه البطريرك، وواخذه به وآخذه بالرجوع إلى عادة أسلافه، واشتد في منعه، فإن رجع، وإلا كان السبب بتحريمه، فإن رجع، وإن كان السبب لخلعه".

المساهمون