القرآن معزولاً عن المصادر الإسلامية: اختلال المناهج وتهافُت المقاربات

09 يوليو 2022
من مدرسة قرآنية في غدامس الليبية، 2007 (Getty)
+ الخط -

تطوّرت، خلال العقدين الأخيرَين، الدراسات القرآنية بشكل لافت، حتى لم يعُد يمرّ أسبوع، في الغرب، من دون إصدار جديد عن أقدس كُتب المسلمين. ويمكن اليوم تلخيص المُقاربات السائدة عن تشكّل النصّ القرآني، في هذه الخطابات الأوروبيّة والأميركيّة، إلى مسارين متقابلين، مع أنهما يجتمعان في اعتباره نصًّا غير متعال، أي أنّه من "وضْع" البشر، وهم الذين ألّفوه في حقبة لاحقة عن الفترة المُفترَضة لنزوله وإيحائه، كما أنّه قد "حُرّر" لأغراض سياسية تَرتبط بحاجة الدولة الأموية، ذات المادّة العربية، إلى مرجع ثابت مقدَّس.

تَعتبر المقاربَة الأولى أنّ القرآن يمتح كلّيًا من مصادر سريانيّة - مسيحيّة، اعتمدها "محرِّرون" من هذه الديانة، كانوا يعيشون في الشام، وهم الذين قاموا بتضمين كلّ الموضوعات ذات الطابع الإنجيلي من قصص الأنبياء وأخبارهم والأخلاق والحياة الآخرة ونهاية العالم... ومئات من الثيمات الأخرى، حيث نلاحظ تشابهًا كبيرًا بينها وبين صياغاتها القرآنية، مثل قصص نوح ويوسف ومبادئ المحبّة والتوبة... وتستند هذه المقاربة إلى التماثل الكبير بين بعض مفردات القرآن واللغة السريانيّة والعبرية القديمة، وهو تماثلٌ استُغِلّ في التدليل على أنّ "محرّري" القرآن اقترضوا تلك الثيمات، كما اقترضوا أساليب التعبير عنها.

وتقود هذه المقاربة مجموعةٌ من الباحثين، منهم أولئك الذين أنجزوا كتاب "قرآن المؤرّخين" (2020)، ولاسيما غيوم دي (1974)، وهو باحث فرنسيّ يشتغل في بلجيكيا، ومحمد علي أمير- مُعزِّي (1956)، وهو جامعيّ فرنسيّ من أصول إيرانيّة، وهما يواصلان نشر الأطروحات التقليدية التي سادت في أوساط المستشرقين، مثل بول كازانوفا (1911). ويقوم منهجهم على إثبات التواصل بين الأصول النصّية المسيحية والتعبير القرآني وإثبات أنّ هذا الأخير قد اقترض، ربّما في تلطيف لكلمة "سرق"، الأفكار، من الرصيد الديني الذي كان متوافرًا لدى المِلل والنِّحل التي عاشت في قلب الدولة الأمويّة.

مقارباتٌ تهدف إلى نزع كلّ قداسة وتعال عن النصّ القرآني

وربما جرى تحريف أو "تكييف" تلك الموضوعات المقتبَسة حتى تتلاءم مع روح الديانة الإسلامية، ضمن عمليات التناص والاقتباس والتحوير والتحاور التي تجري بين كبريات النصوص الأدبية والأسطورية والإنسانية، وهي مسارات تفاعُل درستها مناهج النقد الأدبي الحديثة. وهذا ما يفسِّر حصول بعض الاختلافات الحاصلة بين الأصول والفروع، والتي قد تؤكّد هذه النظرية.

وأمّا المقاربة الثانية فتُرجع النصّ القرآني إلى مصادر داخلية، منبثقة من البيئة البدوية العربية، وممّا كان سائدًا فيها من المقولات والعقائد، وخصوصًا من طُرق التعبير وأنماط التمثيل والتفكير، وقد ازدهرت هذه النظريّة في أعمال الباحثة الفرنسية جاكلين الشابّي (1943)، والتي خصّصت لها خمسة كتب كاملة، فيها الكثير من التكرار، لكنّها حاولت إثبات، من خلال عشرات الأمثلة المُحلّلة، انبثاق المقولات القرآنيّة الرئيسية، مثل: الإيمان والأمّة والألوهيّة والخلود وغيرها، من أصولٍ بدوية - قبلية، وثيقة الصلة بالمناخ الصحراوي الطبيعي الذي حكم التصوّرات والعبارات العربية وشكّل مفاهيمها العامّة. ولذلك، لا يُفهم هذا النصّ إلا بالعودة إلى هذه المؤثّرات البدويّة وتحليلها. وتربط هذه المقاربة "تحرير" القرآن بكَتَبة عرب كانوا يعملون تحت إملاء الدولة الأمويّة!

وهكذا، تهدف هاتان المُقاربتان إلى نزع كلّ قداسة وتعالٍ عن النصّ القرآني واعتباره مجرّد "نتاج بشريّ"، يستجيب لبيئته التاريخيّة، ومن ثمّةَ التشريع لنقد المقولات الواردة فيه وربطها بما سبقها وعاصرها من المبادئ، وطرق البرهنة عليها وأشكال التعبير عنها، كما أنّهما تجتمعان على إقصاء ما جاء في النصوص التراثية، من تفسير وعلوم قرآن وتاريخ وسيرة واعتبارها جميعًا نصوصًا تمجيديّة بَعديّة، لا يمكن الوثوق بها ولا الاعتماد عليها في إعادة كتابة تاريخ تشكُّل هذا النصّ، وذلك بسبب اضطراباتها وتناقضاتها التي لا تنتهي، حسب رأيهم، ثم بسبب صمتها عن الكثير من المسائل الجوهرية أو إخفائها بعض الوقائع وتزييفها.

وهناك من يضيف إلى هاتين المقاربتَين ضرورة الاعتماد فقط على المصادر المنقوشة والمحفورة في الصخور والأحجار، المتناثرة في شبه الجزيرة العربية والشام والعراق، واعتماد ما ورد في هذه "الشواهد"، وما لم يرِد، كأدلّة قاطعة على حضور ثيمة ما أو غيابها، وهو ما سُمّي "قرآن الأحجار"، وإليها تنتمي أعمال الجامعيّ الفرنسيّ فريدريك إمبار (1963). إلا أنّ ما جرى اكتشافه من حفريّات بعد عمليّات التحقيب، وجلُّه افتراضيّ ونظريّ، لا يُوفّر سوى قدر ضئيل من المعلومات، لا تُغيّر ما هو معلوم ولا تنيره، بل غالبًا ما تدعمه، وتسير في الاتّجاه الذي سارت عليه كتب التراث الإسلامي. ثمّ لماذا إيلاء كلّ هذه المصداقية المبالغ فيها إلى الأحجار والتحجيم من مصداقية التراث المكتوب والشفوي، علمًا أنّ الشكّ الذي يُطاول الأوراق يمكن أن ينطبق على الحفريّات والأحجار المنقوشة والأخشاب؟

الشكّ الذي يُطاول الأوراق قد ينطبق على الحفريات أيضاً

وقد صارت المُعادَلة - لدى هذه المقاربات - أنّه لا ينبغي الاعتماد على أيّة رواية تاريخيّة إسلاميّة تقليديّة ما لم يكن هناك داعٍ، ولو كان ضعيفًا، لقَبولها، أي: ما دامت الفرضيّات الفكريّة قادرة على تفسير الظاهرة المدروسة وتعليلها دون اللجوء إلى مصادرنا الإسلاميّة، لأنها محلّ شَكّ، وإن كان ولا بدّ من العودة إليها، فبعد نقد شاملٍ وآلي، وفي أحسن الأحوال، يُتعامل معها بنفَس شديد الانتقاد Hypercritique، فلا يُؤخَذ منها سوى الفكرة العامّة التي تشير إليها، دون التفاصيل الدقيقة، فضلًا عن انتقاد نفَسها التمجيديّ.

إلّا أنّ هذه المقاربات جميعها لم تُقدّم إلى اليوم أيّة إجابة واضحة ودقيقة عن "مُحرّر"، أو "مُحرّري" القرآن، المزعومين وظلّت صامتةً عن زمن التحرير الدقيق، وعن إطاره أكان رسميًّا أم فرديًّا، كما أنّها لا توضح هويّة "الآمر"، أي الخليفة أو العالِم الذي اتّخذ هذا القرار التاريخيّ لاجتراح هذا المرجع الجماعي، القرآن، والذي سيكون بالنسبة إلى العرب الفاتحين ما كانت المراجع المقدَّسة، كالإنجيل، تمثّله للإمبراطوريات الأُخرى.

ومن جهة ثانية، تصمت "المقاربة السريانيّة" عن بعض المواقف الرافضة التي وقفها الإسلام ضدّ المسيحيّة المحرَّفة، من وجهة نظره، ولا سيما عقيدة التثليث وصلْب المسيح وتأليهه، فكيف يُعقل أن يكتب هؤلاء المحرّرون، المُفترض أن يكونوا مسيحيّين سريانيين، مقولات وعقائد تتعارض مع عقائدهم وتؤيّد حرب الإسلام ضدّ انحراف المسيحية؟ بل وتوفّر أدلّة على تهافتها، ولا أدري كيف تغيب هذه النقطة على أصحاب هذا الرأي الضعيف.

القول بأنّ مُحرّرَ القرآن قد جمع أشتات التراث اليهودي والمسيحي واستعاد لحسابه الخاص قصص الأنبياء السابقين وسائر الموضوعات المتأتّية من أنحاء جغرافيّة متباعدة والمحيلة على أحداث وشخصيّات ومفاهيم متباينة في انتماءاتها وعالميّة في مراجعها، لهو دليل على "عبقريّة ما" في الجمع والصياغة والتعبير والاصطراف، استفادةً من سائر مدارات التناص، وهي عين "العبقرية" التي يُضفيها المسلمون على رسولهم الذي نزل عليه "الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ".


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون