استمع إلى الملخص
- وسائل التواصل الاجتماعي تحولت من التجييش الفعلي إلى التجييش الافتراضي، مما أفرغ الغضب من معناه الحقيقي وأضعف الفعل الحقيقي ضد الظلم.
- الكاتب يتذكر أزمنة كان للغضب فيها تأثير حقيقي، ويشير إلى أن الحكمة الباردة أضعفت الغضب، مما سمح باستمرار المذابح دون مقاومة فعالة.
لا يُمكن للغضب، باعتباره حالة شعورية خاطفة ومُعاكسة، إلّا أن يكون سريعاً ويتحرّر من حسابات الربح والخسارة، لا يُمكن لهذه الكرة الملتهبة بالرفض والاحتجاج إلّا أن تولَد أمام أيّ فعل يعجز العقل عن تدارك حدوده بالمنطق والحسابات، ولا يمكن أيضاً، لهذا الذي يُسمّى غضباً إلّا أن يكون نقيضاً للظلم والكذب جهاراً نهاراً على مسامع المقهورين المجروحين، وإلّا فكيف نُفسّر اعتياد الدم إلى هذا الحدّ، وامتصاص الصدمة إلى هذا الحدّ، وتبلّد المشاعر أمام المجزرة التي لا تتوقّف منذ عشرة شهور من دون أن نطرح سؤالاً عن جدوى الغضب في مواجهة المذبحة ونحن نشهد دراماتيكية تحطُّم القوانين والمبادئ والتشريعات أمام العين.
وإذا لم تكن المجزرة، بكلّ ما فيها من صرخات وأشلاء ودم وبقايا، وهي تتكرّر وتتكاثر وتتوسّع وتمحو في طريقها كلّ من يقف أمامها، سبباً لهذا الغضب، فمن أين لنا أن نخترع أسباباً جديدة وواضحة لكتلة اللهب التي من شأنها أن تُعيد الاعتبار للغضب في شكله الأوّلي قبل أن تتهافت عليه مفاهيم السيولة كلّها على حدّ توصيف عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، الذي أشار قبل الجميع إلى أنّ سيولة أزماننا الحديثة قد طاولت كلّ شيء، وأحالت كلّ شيء إلى أشكال جديدة كثيرة التبدّل ومفرطة التحوّل ولا تمنح الواقفين أمامها معنىً جديراً بالاستحقاق سوى المواقف المستهلكة والمشاعر المستهلكة والصورة السائلة العصية على القبض والفهم والإدراك.
أتذكّر هذه الأيام، من جملة ما أتذكّر، أزماناً سبقت وسائل التواصل الاجتماعي التي علّبت الغضب على شكل مناشير تنزّ بلاغةً تصرخ وتنادي في كردورات فارغة، واستعاضت عن الصراخ في الشارع بصفصفة كلمات لا تُغني ولا تسمن من جوع، ومنحت الجماهير الطويلة العريضة شعوراً واهماً وخادعاً بفعل شيء ما، على شكل اصطفافات مشوّهة بالادّعاء ومحمولة على روح الاكتفاء والإدانة المجّانية.
قامت الثورات على فكرة الغضب واندثرت بسبب الحكمة
وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد أثبتت نجاعتها في التجييش من أجل الخروج إلى الشارع في أزمنة مضت، فقد اكتفت هذه الأيام بالتجييش من دون الحاجة إلى الشارع، وبالصراخ من دون صوت، وبالعتب من دون غضب، وبالانتظار السلبي من دون رغبة في المبادرة. هكذا أحالت المشاعر الإلكترونية الناس إلى كتل متخمة بالتمارين اللغوية والبلاغة التي لا تصل إلى أحد، ولا تُلقي ولا تزيح حجراً عن الطريق.
ما زلت أتذكّر أزمنة خلت قبل أن تتسلّل إلكترونية المشاعر ومجّانية المواقف والنداءات الفراغية إلى القلوب، عندما كان للغضب معنىً آخر يُمجّد العناد ويُعلي من الفوضى ويكسر الرتابة التي لا تليق بالدم ولا البرودة التي تواجه الإبادة والمذبحة، عندما كانت نقطة الدم تُحرّك الشوارع وتُغلق الطرق وتمنح الهجوم معنىً آخر وبُعداً آخر وفكرة جديدة.
لكن ثمّة ما يدفع إلى التساؤل عن سرّ هذا الصمت، وسرّ هذا البرود إزاء اندثار القصص والأرواح والأبنية بكلّ هذا الوضوح وبكلّ هذه الفجاجة التي تحتاج إليها الروح من أجل أن تنتفض وتتحرّك وتتقدّم إلى الأمام، وإزاء انعدام القدرة على الإجابة والعجز عن التحليل وإذ يمرّ في ذهني الآن قول الفيلسوف الغيني ديموا: "لقد قامت الثورات على فكرة الغضب، واندثرت عندما استدخلت الحكمة الباردة نفسها في جنبات الثورة" لأنّ الحكمة الباردة تضع مرآة مسطّحة أمام وجه الغضب، تجعله يفكّر ويُعقلن ويراجع الحسابات، في مقابل اللحظة التي تدين العقلنة وتُحطّم الحسابات وتُعلي من الدم المسفوك في وضح النهار.
لم يكن للمذبحة أن تستمرّ وتستطيل مثل الظلال أسفل الشمس لو كان للغضب شكل غير هذا الشكل، ولو لم تعصف بالغاضبين المتخمين بفانتازيا الخلاص الأرضي القادم من الخارج، مرّة على شكل شرطي العالم ومرّة على شكل سوبرمان الأبيض الذي اعتراه العري والانكشاف أمام أبسط ريح هبّت من وديان غزّة وشواطئها وشوارعها وما بقي من ركام ستظل تذكّر الدارسين والمنتبهين والعابرين على الصفحات بالمجزرة التي مرّت ولم يُوقفها أحد، أبداً.
* كاتب من فلسطين