العمارة الأموية.. جسرٌ عبرت عليه الفنون الإسلامية

08 ابريل 2023
مدخل مسجد قبّة الصخرة في قلب المسجد الأقصى بالقدس المُحتلّة (Getty)
+ الخط -

لم تنشأ المدرسة الأموية في العمارة دفعة واحدة. استغرقت ما يقرب من قرن زمنياً؛ بين عامَي 662 و749م، هو عمر الإمبراطورية التي امتدّت من حدود الصين شرقاً، إلى أقصى الجنوب الغربي الأوروبي، في ما عُرف باسم الأندلس؛ حيث تطوّرت هناك وأنتجت صروحاً خالدة ما زالت تدهش الناظرين حتى يومنا هذا.

ويُمكن القول إن هذه المدرسة صهرت في بوتقتها عناصر العمارة البيزنطية والسريانية والقبطية، واستفادت بشكل أو بآخر من بعض العناصر الساسانية الفارسية، لتصل إلى نمط عمراني أصيل طوّع كل ذلك للروحية الإسلامية الجديدة. وخلافاً لاهتمام عبد الملك بن مروان (646 - 705م) وابنه الأكبر الوليد بن عبد الملك (668 - 715م) بالعمارة الدينية، اهتمّ الابن الأصغر هشام بن عبد الملك (691 - 743م) ببناء القصور والحدائق والمرافق العامة، ومنها قصر الحير الغربي، وقصر أريحا، ومجمع الرصافة الحكومي في البادية السورية، وأول سوق مسقوف متكامل عرف في الحضارة الإسلامية.


قبّة الصخرة

اللبِنة الأولى بدأها عبد الملك بمسجد قبّة الصخرة في مدينة القدس، المعروفة باسم إيلياء في ذلك الزمن، وهو بناء مثمَّن الزوايا فريد من نوعه كانت الغاية منه معنوية بالدرجة الأولى، على ما يبدو، وذلك لتأكيد المشروعية الدينية، بعد أن استحوذ عبد الله بن الزبير (624 - 692م)، في أثناء صراعه مع عبد الملك، على أقدس مقدّسات المسلمين، وهي الكعبة المشرّفة، فكان لا بد من مكان مقدّس آخر ريثما يستعيد أم القرى، فكانت الصخرة التي نُسبت إليها حادثة المعراج الشهيرة في الموروث الإسلامي. 

فكرة البناء المُثمَّن ليست ابتكاراً أموياً، بل هي نمط بيزنطي شاع في بلاد الشام منذ القرن الخامس الميلادي، وخيرُ ممثّل له دير القدّيس سمعان العمودي في ريف حلب الغربي، ولكنَّ أكثر الأبنية شبهاً بقبّة الصخرة هو الكنيسة المثمّنة في قيسارية، عاصمة فلسطين الرومانية، ومع ذلك ثمة عناصر مبتكرة في هذا الصرح، وخصوصاً الزخارف والرسوم والكتابات التي نُفّذت بالفسيفساء الجدارية المذهّبة التي سنرى أكمل صورها في مسجد دمشق.

بدأ بناء قبة الصخرة في عام 688م، واستغرق نحو أربع سنوات حتى عام 691م. ويبدو أنّ القبّة بُنيت لتنافسَ قبة كنيسة القيامة في الارتفاع، كعنوان من عناوين السيادة، بحسب بعض الدارسين، وهي ترتكز على رقبة مستديرة الشكل فيها ستّ عشرة نافذة، تحملها أربع قواعد من الرخام الأبيض، يفصل بينها اثنا عشر عموداً موزّعاً بشكل متساوٍ بين القواعد. وثمّة رواقان دائريّان منفصلٌ أحدهما عن الآخر بثماني قواعد، وستة عشر عموداً موزّعة بينها، مزخرفة برخام مشجّر ملوّن بشكل رائع، يربط بينها روابط من الخشب المُلبّس بالنحاس المعشّق بالذهب، وفي كلّ ضلع من أضلاع القواعد الثماني باب.

الصورة
من فناء المسجد - القسم الثقافي
مسجد قبّة الصخرة في القدس المُحتلّة (Getty)

كُسي مبنى قبة الصخرة بفسيفساء أثبتَت الدراسات أن حجارتها وزجاجها من منشأ محلّي، وما نراه اليوم من فسيفساء خارجية ليست هي الأصلية، بل هذه من الفترة العثمانية المبكّرة، ولكن الفسيفساء الأموية نجدها في الداخل، وهي تشبه فسيفساء جامع دمشق إلى حدٍّ كبير، حيث تطغى عليها العناصر النباتية، وخصوصاً أوراق وعناقيد العنب، وأشياء أُخرى مثل المزهريات والكؤوس. وربما أهمّ ما في هذه الفسيفساء البديعة، الآيات القرآنية في أعلى القوس المثمّن الأوسط، التي تعدّ أقدم النماذج الفنية للخط العربي الذي عُرف في وقت لاحق باسم "الخطّ الجليل".

وثمة مَن يجادل بأنّ المبنى الأموي أُقيم على مبنىً بيزنطي أقدم منه، ولكن الاختبارات والدراسات الحديثة التي أُجريت على المكان أثبتت أنه بناء أصيل متجانس بُني من الصفر، ولا يوجد فيه أيّ بقايا لبناء قديم.


مسجد دمشق

اللبِنة الثانية وضعها الوليد بن عبد الملك حين شرع في بناء مسجد دمشق، درّة العمارة الأموية والإسلامية، والذي جسّد عظمة الإمبراطورية. فعلى الرغم من أن شكل مخطّط المسجد النبوي في المدينة المنوّرة كان مصدر الإلهام له، إلا أنه احتوى على عناصر جديدة استفادت من طراز "البازيليكا" ضمن الحيّز المُستطيل لحرم "معبد جوبيتير" المُحاط بأربعة أبراج، وأعمدة وتيجان تشكّل رواقاً يُحيط بالحَرم كلّه. 

وتُعَدّ قبّة المسجد ذات القوقعة المزدوجة؛ قبّة فريدة من نوعها حيث عبّر الرحالة الأندلسي ابن جبير (1145 - 1217م) حين رآها من كثب بأنها أعظم ما شاهده "من مناظر الدنيا الغريبة الشأن، وهياكلها الهائلة البنيان". والمؤكد أن الوليد حشد جيشاً هائلاً من الحرفيّين المحليّين، وكذلك المُستدعين من الأقاليم الأُخرى، مثل مصر، وبلاد الجزيرة الفراتية، لرصف أكبر لوحة فسيفساء جدارية في ذلك الوقت، اقتضت بحسب تقديرات المؤرّخ الأسترالي روس أ. بيرنز صاحب كتاب "تاريخ دمشق"، 28 طناً من الزجاج والمكعّبات الحجرية، منها 12 طناً باللون الأخضر وحده، رُصفَت كي تتألّق على المساحة بأكملها، وتلمع مثل حديقة رائعة، كلّ مكعّب فيها مائل بعناية لالتقاط الضوء عند رؤيته من الأسفل". 

الصورة
مشهدٌ عام لدمشق يتوسّطها المسجد الأموي - القسم الثقافي
مشهدٌ عام لدمشق يتوسّطها المسجد الأموي (Getty)

ويقول بيرنز، وهو أستاذ في جامعة مكواري بسيدني: "إن ما نراه الآن نسخة أدنى بكثير من النسخة الأصلية التي تعرّضت للحريق أكثر من مرّة، ولكنها لا تزال كافية لإعطاء إحساس بتأثيرها الطاغي". وقد تحدّثنا في مقال سابق عن مسجد دمشق بشكل مفصّل، أثبتنا فيه بالوثائق مساهمة الحِرفيّين الأقباط والسريان في عمليات البناء. وبالإضافة إلى الأهمية المعنوية الكبرى التي حقّقها مسجد دمشق لصورة الأمويين كسلالة إمبراطورية، كان في الوقت ذاته مصدر إلهام، وأنموذجاً للكثير من المساجد التي بُنيت بعده.


هندسة القصور

لا نعرف سوى القليل عن قصر الخضراء الذي بناه معاوية بن أبي سفيان (608 - 680م) بسبب الدمار الذي ألحقه زلزال عام 749م، وبعدها قوات أبي مسلم الخراساني، بالعمائر الأموية في دمشق كما تؤكّد كتب التاريخ، ولكننا بتنا نعرف الكثير عن قصور الوليد وهشام بعد الكشف عن آثارها، حيث تتميّز هذه القصور إجمالاً بمجموعة من الصفات والمزايا التي تجعل منها مجمّعات ضخمة محصّنة تضمّ مرافق خدمية متكاملة. 

ويُمكن أن نتتبّع أصول فكرة قصور الأمويين الصحراوية في الأديرة المحصّنة التي بناها ملوك الغساسنة في البادية السورية، وخير مثال عليها دير الملك الحارث في حليوروم، على الطريق الواصل إلى تدمر من جهة الغرب، الذي حوّله هشام إلى قصر عُرف باسم قصر الحير الغربي. وكذلك الدير الذي بناه الحارث بن جبَلة أيضاً في الرصافة والذي تحوّل أيضاً على يد هشام إلى مجمع للحُكم كان يعدّ مقرّه الرئيسي لسنوات عديدة.

وأثرياً يمكن اعتبار قصر الوليد بن عبد الملك في بلدة عنجر في البقاع اللبناني أوّل قصر معروف من هذا النوع، فهو أشبه بمدينة محصّنة مستطيلة الشكل نظراً لسعة مساحته (طول سوره 370 متراً وعرضه 310 أمتار)، ويحميه 36 برجاً نصف دائري تلتقي جميعها في زوايا أربع هي عبارة عن أربعة أبراج دائرية. وفي داخل السور قصران وجامع وعدد من الحمامات والمخازن والأبنية السكنية. وهذا القصر ومرافقه متأثّران بالعمارة البيزنطية التقليدية، وخصوصاً لجهة استخدام المداميك المتناوبة بين الحجَر الجيري الأبيض المنحوت، ومكعّبات الفخّار المشوي أحمر اللون.

الصورة
قصر المشتى - القسم الثقافي
واجهة قصر المشتى الذي يعود إلى القرن السابع الميلادي (Getty)

ونرى بدايات اكتساب القصور الأموية هويّة معمارية خاصة في قصر الحير الغربي، وخصوصاً واجهته العملاقة المزيّنة بالزخارف النباتية الجصية، التي نُقلت إلى دمشق لتشكّل بوابة "المتحف الوطني". وكُشف في القصر أيضاً عن لوحات "فريسك" تشبه ما هو معروف في بعض المدن السورية الصحراوية كتدمر، ودورا أوروبس، إضافة إلى وجود تمثال نافر لملك جالس على عرش يُعتقد أنه يمثّل هشام بن عبد الملك نفسه. وبنى هشام أيضاً قصر الحير الشرقي الذي يضمّ هو الآخر زخارف وأفاريز جصية بديعة. 

وربما كان قصر هشام، شمالي مدينة أريحا الفلسطينية، أجمل هذه القصور وأبدَعها، وقد ساهم الزلزال الذي أدّى إلى دمار القصر في عام 749م إلى الاحتفاظ بموجوداته كاملة. وهو يتكوّن من أبنية وحمامات وجامع، وقاعات معمّدة مزيّنة بالزخارف والتماثيل الآدمية، منها تمثال بالحَجم الكامل للخليفة هشام بن عبد الملك. وتعدُّ حصيرة الفسيفساء التي تمتدّ على كامل القصر واحدة من أكبر الحصائر الفسيفسائية المحفوظة في العالم. 


سوق تجاري فريد من نوعه

بالإضافة إلى المباني الدينية، ومشيّدات القصور الحصينة وملحقاتها، كشفت التنقيبات الأثرية عن سوق تجاري متكامل ومسقوف في مدينة بيسان الفلسطينية، أمر ببنائه هشام بن عبد الملك عام 737م. 

وبيّنت التنقيبات أن هذا السوق كان يتكوّن من 20 متجراً بطابقين مع أروقة معمّدة. وقد عُثر على لوحتين فسيفسائيّتين على يمين ويسار البوابة الجنوبية الشرقية تؤرّخان للبِناء. وتنُصّ اللوحة الأولى على النصّ الرسمي الذي نقرأه على البرديات الرسمية للخلفاء الأمويين: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، محمد رسول الله، أرسله بالهُدى ودين الحقّ ليظهره على الدِّين كله". بينما تنصّ اللوحة الثانية: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بهذا البُنيان عبد الله هشام أمير المؤمنين، على يدي الأمير إسحق بن قبيصة، في سنة عشرين ومائة". 

وهذا السوق بناء فريد من نوعه لم يُعثَر على شبيه له، ربما بسبب الدمار الذي لحق بالآثار الأموية على يد العباسيين الذين تفنّنوا في محو آثار هذه السلالة، وليس أدلّ على ذلك من محو اسم عبد الملك بن مروان من قبّة الصخرة، واستبداله باسم الخليفة العباسي المأمون مع نسيان التاريخ كما هو. 

ومن أطرف المعثورات في السوق ختمٌ رصاصي لجرّة عسل تحمل اسم الخليفة هشام، ربما أُرسلت إلى بيسان من بستانه في الرصافة، والمعروف أنّ هشام كان مولعاً بالعسل، وإليه ينسب الأصمعي المقولة الشهيرة التي أرسلها لعامله في الطائف: "ابعث لي من عسل الندغ والسحاء أخضر في السقاء أبيض في الإناء". 


قصور الوليد بن يزيد

يُنسب إلى الوليد بن يزيد (707 - 744م) عدد من القصور أجملها وأكبرها قصر المشتى، جنوبي العاصمة الأردنية عمان، وهو قصر ينطوي على زخارف في الحجر الجيري غاية في الإبداع، تنتمي من حيث النمط إلى زخارف قصور هشام، ونرى فيها عناصر من زخارف قبّة الصخرة. ولعلّ أبدع ما في القصر واجهتُه القِبلية، حيث المدخل الرئيس، وهي موجودة حالياً في "متحف بيرغامون" ببرلين، وقد نُقلت عام 1903م إلى هناك بعد أن أهداها السلطان عبد الحميد الثاني (1842 - 1918م) إلى قيصر ألمانيا غليوم الثاني (1859 - 1941م) كردِّ جميل على المساعدة في إنجاز سكّة الخط الحديدي الحجازي. وبالقرب من هذا القصر بنى الوليد بن يزيد قصراً آخر يسمّى الآن قصر القسطل. 

الصورة
قصر عمرة - القسم الثقافي
بقايا جدارية الملوك الستة التي تُزيّن قبّة قصر عمرة في الأردن (ويكيبيديا)

وربما كان قصر عمرة الواقع في أراضي منطقة الأزرق، حوالى 85 كم شرقي العاصمة الأردنية، هو الأشهر عالمياً من بين القصور الأموية بسبب رسومات "الفريسك" المُذهلة التي تزيّن جدرانه. يتكوّن القصر من قاعة استقبال كبيرة وغرفتين تُطلّان على حديقتَين، وثمّة غُرف أُخرى مكسوّة بالرخام، فيما كُسيت أرضية القصر بالفسيفساء ذات الرسومات النباتية. وحمام بقاعات ثلاث إحداها مزوّدة بأنابيب البخار، وهناك غرفة مُلحقة بالحمام فيها مقصورتان لتبديل الثياب.

من أشهر لوحات القصر الملوّنة صورة لملوك العالَم، ثلاثة في الصف الأول وثلاثة في الصف الثاني، وفوق أربعة منهم كتابة بالعربية والإغريقية. الأول من اليسار في الصفّ الأمامي فوقه كلمة قيصر بالعربية والإغريقية، وهو إمبراطور بيزنطة، والثاني في الصفّ الخلْفي فوقه كلمة يظنّ أنها لوذريق آخر ملوك القوط في إسبانيا، والثالث في الصف الأمامي فوقه كلمة كسرى ملك فارس، والرابع فوقه كلمة النجاشي ملك الحبشة، والخامس يُعتقد أنه ملك الصين. وقد سُجِّل قصر عمرة على قائمة التراث العالمي كموقع ثقافي في عام 1985. 


قوس "حدوة الحصان"

ويبقى قوس "حدوة الحصان" واحداً من أكثر القضايا إثارة للجدل عند التأريخ لتطوّر فنون العمارة. والمعروف أن الأمويين هم الذين عمّموا هذا النمط من الأقواس؛ إذ ظهر بشكله النهائي المعروف حالياً في قصر القسطل المنسوب إلى الوليد بن يزيد، ولكنّه يظهر بشكل أوّلي قبل ذلك في مسجد دمشق، وقصر عنجر من زمن الوليد بن عبد الملك، وقصر الحير الغربي من زمن هشام بن عبد الملك. 

الصورة
قصر القسطل - القسم الثقافي
من أطلال قصر القسطل الذي يُنسب بناؤه إلى الوليد بن يزيد (ويكيبيديا)

وقد تتبّع الدارسون شكلاً جنينياً لقوس "حدوة الحصان" في كنيسة مار يعقوب النصيبيني، من القرن الرابع الميلادي في مدينة نصيبين السريانية جنوبي تركيا الحالية، وكذلك في قصر ابن وردان، وهو صرح مدني وديني يُنسب إلى الحارث بن جبلة الغساني. ولكن هذا القوس تطوّر كثيراً في الأندلس وشمال أفريقيا، وأصبح هو العنصر السائد هناك.
 
ويجادل بعض الدارسين الغربيّين لأسباب غير علمية بأن هذا القوس استُخدم بشكل متقطّع في الأندلس قبل الفتح الإسلامي من جانب القوط الغربيّين، ولكن ثمّة من يردُّ عليهم بأن هذه الأقواس بُنيت بعد فتح الأندلس ووجودها ناتج من عمليات إعادة بناء أو ترميم.

المدرسة الأموية في فنون العمارة حقيقة عِلمية وتاريخية لا يشكّك في أصالتها إلّا جاهل، وثمّة المئات وربّما الآلاف من الدراسات العِلمية المُحكّمة المنشورة حولها بجميع اللغات، ولعلّ ميزتها الأساسية أنها شكّلت مرحلة انتقالية بين المدارس المعمارية السورية والمصرية والرافدينية والمدرسة المعمارية الإسلامية بتنوّعاتها وفروعها الكثيرة. 


* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون