العلاقات الثقافية العربية التركية: بين الأيديولوجيا والنوايا الحسنة

13 مايو 2023
من دورة عام 2019 من "معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي" (Getty)
+ الخط -

سيناريوهات عديدة تدور الآن في أذهان كثير من العرب المهتمين بالشأن التركي، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية. ويعتقد الكثيرون أن ضمان استمرار العلاقات العربية التركية مرتبط باستمرار النظام التركي الحالي، وهذا أمر طبيعي، في ظلِّ تصاعد الشعارات الموجّهة ضد العرب المقيمين في تركيا، في خطاب قسم كبير من المعارضة التركية وبعض مرشّحي الرئاسة.

أتصوّر أنه من الصعب الآن الإجابة على سؤال: "هل ستتأثر العلاقات العربية التركية بمصير الانتخابات التركية؟". ولكن، إذا نحّينا العلاقات السياسية بين العالمين العربي والتركي جانباً، لأنها تتغير وفقاً للظرف السياسي، سنجد أن العلاقات الثقافية بين الشعبين هي الأكثر عمقاً وبقاءً، وخصوصاً أن للعرب والأتراك تاريخاً مشتركاً يزيد عن الخمسمائة عام.

ولا يختلف أحد على أن انفتاح تركيا على العالم العربي، في ظل حكومة "العدالة والتنمية"، كان له العديد من الإيجابيات على مستويات عدة، ولذلك من المهم أن نعيد النظر إلى العلاقات الثقافية بين الشعبين في ظل هذا الانفتاح، خلال العقدين الأخيرين، سواءً للإشادة بالجوانب الإيجابية، أو تسليط الضوء على الجوانب السلبية. ولكن تنبغي الإشارة أولاً إلى واقع تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية، ونشأة القوميات والجمهوريات الحديثة.

يعرف مَن يتابع تاريخ تركيا، أن الخطوات التي اتخذها مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، في سبيل "التحديث"، كانت تعني القطيعة التامة مع كلِّ ما يتعلق بالثقافة الشرقية، وبخاصة الثقافة العربية، التي أثَّرت بشكل كبير في حضارة الأتراك، منذ تبنيِّهم للإسلام الذي أثر في تفاصيل حياتهم، مروراً باستخدامهم للأبجدية العربية في القرن العاشر الميلادي، ودخول آلاف الكلمات العربية إلى اللغة التركية.

إعادة تركيا إلى محيطها كانت "ثورة"، بعد سيطرة التغريب

ولم يقصر أتاتورك عملية بناء "هوية تركية جديدة" على إبعاد الجمهورية الجديدة عن هويتها الشرقية فحسب، بل والتعامل مع الشرق باعتباره "آخرَ". وقد شملت خطوات "التحديث" التي اتخذها أتاتورك كلَّ مجالات الحياة تقريباً، بدءاً بإغلاق تكايا الدراويش ومنع ارتداء العمامة والطربوش واستبدالهما بالقبّعة الغربية عام 1925، واعتماد التقويم الأوروبي والقانون المدني السويسري والجنائي الإيطالي، مروراً بالتخلّي عن الأبجدية العربية واستبدالها بالحروف اللاتينية عام 1928، وحظر رفع الأذان باللغة العربية عام 1932، وانتهاء بحظر بثِّ الموسيقى الشرقية في الإذاعة التركية والأماكن العامة عام 1934.

هذه هي الأجواء التي عاشتها تركيا لعقود في ظل حكم الحزب الواحد، حيث كان يُنظر إلى اللغة العربية وثقافتها باعتبارها لغة الجهل والرجعية، في الرواية التركية الرسمية. وبالتالي فإن الخطوات المبذولة في العقدين الأخيرين، كانت بمثابة "ثورة" لإعادة تركيا إلى محيطها الجغرافي وانفتاحها على العرب بعد غياب استمر لثمانية عقود.

وفي هذا السياق، افتتحت الحكومة العديد من المراكز لتعليم العربية في عدة مدن تركية، وقامت بتنشيط أقسام اللغة العربية التي كانت شبه مهجورة في الجامعات التركية، كما افتتحت العديد من فروع المراكز الثقافية في العواصم العربية المعروفة باسم "معهد يونس أمرة".

إلى جانب ذلك، أقامت الحكومة العديد من ورشات الترجمة بين العربية والتركية، والمهرجانات الشعرية أيضاً. وبعد أن كانت الترجمة من العربية مقتصرة على الكتب الدينية والتراثية، أصبح هناك العديد من الترجمات الأدبية والفكرية، وصارت تركيا تحرص على ترجمة آدابها إلى اللغة العربية، مثلما كانت تحرص على ترجمته سابقاً إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية. وفي هذا السياق، تجب الإشارة إلى مشروع "تيدا"، التابع لوزارة الثقافة والسياحة التركية، الذي دعم العديد من دور النشر العربية من أجل ترجمة ونشر الأدب التركي في العالم العربي.

هناك العديد من الخطوات الأخرى في هذا السياق، سواء التي اتخذتها الحكومة التركية الحالية، بعد أن أصبحت تركيا المنفى الاضطراري أو حتى الاختياري لكثيرين من العرب الفاريِّن من بلادهم بعد انتكاس ثورات الربيع العربي (في هذه الجولة على الأقل)، أو من المبادرات الفردية لبعض المثقفين الأتراك.

ومن ضمن المشروعات الثقافية الفردية، جمعية "فنّانو المهجر" في إسطنبول، التي أسسها الصحافي التركي توران كشلاقجي عام 2020، بهدف إقامة المعارض الفنية للفنانين العرب والأتراك، وإقامة الندوات الشعرية والفعاليات الثقافية التي من شأنها أن تُقرِّب بين فناني المهجر فيما بينهم من ناحية، والتعرُّف على الفنانين الأتراك، من ناحية أخرى. وخلال السنوات الأخيرة، أُقيمت بعض المهرجانات الشعرية برعاية وزارة الثقافة والسياحة التركية، وبمشاركة بعض الشعراء العرب المقيمين في تركيا. كما بادر الجانب العربي أيضاً في سبيل توطيد العلاقات الثقافية بين العالمين، سواء بزيادة أعداد الترجمات من الأدب التركي في السنوات الأخيرة أو بمشاركة كثير من دور النشر العربية في "معرض إسطنبول للكتاب العربي".

ولكن، هل توطدت العلاقات الثقافية العربية التركية بالفعل، وهل تمت الاستفادة من هذا الانفتاح التركي على العالم العربي خلال عقدين؟ وهل خُلق حوار ثقافي جاد بين المثقفين العرب والأتراك؟ للأسف، لا. لم يتحقق ما كان يمكن تحقيقه في ظلِّ توفير كل ما سبق. وبحكم إقامتي في تركيا، وعملي في الترجمة بين التركية والعربية، ومعرفتي بالوسط الثقافي التركي، بدرجة ما، فإن أسباب عدم نجاح إقامة جذور ثقافية حقيقية بين العرب والأتراك، يرجع، في رأيي، إلى سببين رئيسيين: الأيديولوجيا، والنوايا الحسنة.

إذا نظرنا إلى أغلب الأنشطة التي تحدثنا عنها فيما سبق، سنجد أنها محكومة بالأيديولوجيا. أغلب المثقفين الأتراك المهتمين بالثقافة العربية إسلاميون، يبحثون في الثقافة العربية عن الإسلام فقط. حتى عندما فُتح المجال لترجمة كتب أدبية وفكرية من العربية، فقد بحثوا أيضاً عن كتب وفقاً لهذه الأيديولوجيا أيضاً. ومَن يتابع دور النشر العربية والتركية التي تترجم بين اللغتين، سيلاحظ ذلك من العناوين بسهولة. ولستُ مضطراً هنا أن أقول إنني لستُ ضدَّ ترجمة هذا النوع من الكتب، لكنني أتحدث عن التنوع وعدم الاقتصار على ترجمة الكتب التي تخدم أيديولوجيا محددة، مهما كانت هذه الأيديولوجيا.

علاقات ثقافية حقيقية بين العرب والأتراك هي ما نحتاج إليه

أما عن النوايا الحسنة، فإذا تابعنا أغلب الأنشطة التي تحدثتُ عنها، سنجد أنها تفتقد لأي نوع من السياسات الثقافية، سواء الحكومية أو المبادرات الشخصية. ندوات كثيرة تتحدث عن الماضي المشترك بين العرب والأتراك، مع الحنين إلى هذا الماضي، وندوات شعرية شكلية ينظمها موظَّفو وزارة الثقافة التركية، تشبه مهرجانات "اتّحاد الكتّاب" البائسة في البلاد العربية، ويُدعى إليها "الشعراء العرب المتاحون" في إسطنبول، بغض النظر عن قيمة تجاربهم الشعرية. لأن المهم هو أن يحمل برنامج المهرجان أسماء شعراء عرب. بمعنى آخر، لا يُنظر إلى تجارب هؤلاء الشعراء، ولكن يُنظر إليهم بعين التضامن مع المهاجرين واللاجئين. أنا لا أشكك في النوايا الحسنة لهؤلاء المنظمين أو حتى المشاركين، ولكن، كما يعرف الجميع، فإن النوايا وحدها لا تكفي.

وحتى المبادرات الفردية، مثل جمعية "فنّانو المهجر" التي يديرها توران كشلاقجي، فقد أخفقت أيضاً في إقامة فعاليات جادّة، وتعريف الفنانين العرب والأتراك ببعضهم البعض، مثلما أخفق أيضاً المشروع السابق لكشلاقجي، والمعروف بـ"بيت الإعلاميين العرب"، الذي كان من المفترض أن يكون جسراً لتواصل الإعلاميين العرب في تركيا بالمؤسسات التركية الرسمية وغير الرسمية. وحتى لا ألوم طرف المثقفين الأتراك فقط، فإن أغلب المثقفين العرب المقيمين في تركيا، لم يحاولوا أيضاً فهم طبيعة البلد الذي يعيشون فيه أو التواصل بشكل جيد مع مثقَّفيه، لأن أغلبهم لم يتعلَّم التركية، بل ويلوم بعضُهُم المثقفينَ الأتراك لعدم تحدثهم باللغة الإنكليزية.

وبعيداً عن نتائج الانتخابات القادمة، يجب أن يفكر المثقفون أولاً في كيفية إقامة علاقات ثقافية حقيقية بين العرب والأتراك، لأن هذه العلاقات هي التي ستجعل الشعبين يتعرفان إلى بعضهما البعض، بشكل حقيقي، بعيداً عن الصور النمطية البالية، والشعارات الانتخابية الكاذبة، والسياسات المُتغيِّرة بتغيُّر الظرف.

وأخيراً، أحب أن أذكِّر بكلمات الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين (1915 ــ 1995)، الذي انشغل كثيراً بمسألة علاقة العرب بالأتراك، وخصوصاً بعد زيارته لمصر عام 1966 في "مؤتمر أدباء آسيا وأفريقيا"، وإثر زيارته للعراق بعد عشر سنوات من زيارته لمصر في المؤتمر نفسه. كان نيسين دائماً ما يشير إلى أنّ الأدب هو العامل الذي يضمن المعرفة الجيّدة بين المجتمع التركي والعربي، حيث يقول في مقدّمة كتابه "الخوف من الخوف" (ترجمة عبد القادر عبد اللي): "من غير الممكن أن يتعرّف الشعبان التركي والعربي، أحدهما على الآخر، من خلال العلاقات بين الحكومات والتجارة فقط. لا يمكن أن يتحابّا دون أن يتعارفا عن كثب. وهناك ما يمكن أن يؤدّي إلى المعرفة المتبادلة بيننا بالتأكيد، إنه شِعرُنا ورواياتنا، وقصصنا وحكاياتنا، أو بكلمة واحدة: أدبُنا". 


* شاعر ومترجم مصري مقيم في تركيا

المساهمون