ظاهرُ القِصّة أنّ منظّمة "الأمم المتحدة" اعتمدت بالإجماع، في الثامن عشر من شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، سنة 1973، العربيّة لغةً رسميّة في أروقتها، اعترافًا بأهمّيتها على الصعيد العالمي. والظاهر أيضًا أنّ هذا الإقرار كان بمثابة مكافأة للضّاد على تمكّن أبنائها من التعبير عن المفاهيم المُستحدثة ومواكبة ما طرأ على ساحة العالم من تغيّرات. ولكنْ، ألا يُخفي هذا الإقرار مغالطةً معرفيّة ضخمة؟ وما هي الظروف السياسيّة التي حفّت بهذه المصادقة حتى كادت تجعل منها مجرّد حركة رمزية ضمن التفاعل الدبلوماسي بين التكتّلات المتنازِعة؟
لا شكّ أن هذا التاريخ يمثّل تحوّلًا رئيسًا في طريقة نَظر القوى العظمى إلى اللّغة العربيّة. ولكنّ هذا التقدير المُفاجئ لها ليس سوى المرآة التي عكست التحوّلات الجذرية التي جعلت العالم العربي، ولا سيّما دول الخليج، يعود، في تلك الأيّام، إلى مركزه ليتبوّأ مكانة هامّة على الساحة الدولية، بُعيد أزمة النفط والقرارات الشجاعة التي اتّخذتها الدول المنتِجة له بهدف رفع الأسعار على أعقاب حَرب تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، ممّا أكّد الحضورَ المتنامي لهذه الدول في مسرح الأحداث العالمية. وهذه مجرّد فرضيّة بحث جديدة نقدّمها للتدليل على أن إقرار الضادّ في الأمم المتحدة ليس سوى "حركة" من الدول العظمى للتخفيف من حدّة الأزمة والرضوخ أخيرًا إلى مطالبات الدول العربية، والتي تتالت في أعوام 1954 و1960 و1964، باستخدام العربية في المداولات وترجمة الاتّفاقيات والقوانين المنبثقة عنها.
وقد رافق هذا الإقرار ضربٌ من الإشادة بالبُعد العالمي للضادّ، كما لو أنه بِدعٌ واكتشاف جديد، من خلال المنشورات الأخيرة (ومنها كتاب جمع محاضراتٍ ألقيت في "معهد العالم العربي" بباريس سنة 2018 وعنوانه: "اللغة العربية، لغة عالمية"، بإشراف نَدى يافي، عن دار نشر "لارماتون").
لم تنتظر العربية الهيئات الدولية لتصبح لغةً كونية
وكائنًا ما كانت نوايا الفرقاء والمُشيدين، فإنّ هذه المصادقة بُنيت على مصادرة، مفادها أنّ العربية "أصبحت" لغة عالميّة، ممّا يؤهلها لهذه المكانة في مُعاملات الهيئة الأمميّة. وهذا مِن خَفيّ المغالطات، ولنُسمِّ الأشياء بأسمائها، باعتبار أنّ العربية، ومنذ ظهور الإسلام في القرن السابع للميلاد، كانت قد ابتدأت رحلتَها الطويلة والثابتة نحو العالميّة. فقد اعتَمدها، لغةَ حوارٍ، العربُ، وارِثو أكبر الإمبراطوريات آنذاك: البيزنطية في الشام وما جاوَرها من دول آسيا الوسطى، بما فيها تركيا الحالية، والساسانيّة التي كانت متحكّمة في أرض فارس وما حاذاها. فهكذا، دخلت الضاد غمارَ التفاعل مع هذه الحضارات تعبيرًا عن منجزاتها المادّية والعقليّة من بوّابة الفتوحات الإسلاميّة، وكانت لسان بَيانٍ.
كما أنّ هذا البُعد العالمي قد ترسّخ بين القرنين التاسع والثاني عشرَ، حيث تُرجمَ إلى الضادّ كلّ الموروث الكونيّ المعروف آنذاك، سواء كان مكتوبًا بالفارسية أو الإغريقية، وأصبحت حينها الضادُّ لغة العالَم والعُلماء بدون منازع، والوعاء الثقافي الذي انعكس على صفحته كلّ ما أنتجه الفكر البشريّ في حقول الرياضيات والمنطق والفلك والطبّ والجغرافيا الطبيعية والبشرية وغيرها. كما أنّ ما جرى من ترجمةٍ للعلوم والفلسفات في الاتّجاه الآخر، أي من العربية إلى اللاتينية والعبْرية والفارسية، ساهم بشكل كبيرٍ في عَولمتها خلال القرون الوسطى، وجَعْلِها اللغةَ التي بها تُنقل المفاهيم المجرّدة وأسماء الأشياء.
ويضاف إلى هذا ما أسفر عن الحركة الاستشراقية التي بدأت منذ القرن السادس عشر بترجمة أعمال كبار المفكّرين العرب والمسلمين وطبْعها، وهو ما تواصل في القرون التالية، حيث كانت كتب الثقافة العربية حاضرةً في المشاهد العِلمية بأوروبا الأنوار.
أمَدّت الضادّ لغات الدنيا بأمّهات المفاهيم المركزية
وأخيرًا وليس آخرًا، تأكّد هذا البُعد العالمي ضمن عمليات الاقتراض الواسعة التي أجرتها مختلف لغات العالَم من الضادّ، سواءً في أوروبا (مثل الإسبانية والبرتغالية والفرنسية) أو أفريقيا أو آسيا، فمفرداتها وعباراتها ــ وليس فقط ذات الطابع الديني أو بسببه، كما يروّج لذلك البعض، بل أيضًا المتّصلة بالدوائر العِلمية واليومية (مثل: سكر، قهوة، قطن..) ــ إنّما هي من آثار هذا الانتشار الذي تعاقَب على مدار قرون ومن دون توقّف.
ولذلك، يبدو ما قامت به منظّمة "الأمم المتحدة" من ترسيم لاستخدام الضاد ليس استحداثًا لهذا البُعد الكوني ولا حتى ترسيخاً له، بل هو تحصيل حاصلٍ لا حاجة فيه إلى تضخيم دورها، والذي ربما رضخت فيه إلى إملاءات جيوسياسية وعملت من خلالِه على كسب ودّ دول الخليج الصّاعدة اقتصادياً آنذاك. كما أنّه يخفي قرون الامتداد الثقافي والمعرفي الذي زيّن حضور الضادّ على ساحة اللغات، ليس من منطق الهيمنة والتعالي أو الاستهلاك العابر، بل أثبته في صميم العطاء الفكري الذي أمَدَّ لغات الدنيا بأمّهات المفاهيم المركزية التي أسهمَت في أنسنة الإنسان.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس