العائدون إلى الكتب التراثية.. أية طرق للرؤيا؟

14 أكتوبر 2020
من الدورة الماضية لمعرض القاهرة للكتاب (Getty)
+ الخط -

الإقبال على كتب التراث العربي يطغى على أي إقبال آخر موضوعه الكتاب. هذه ظاهرة ملحوظة في معارض الكتب العربية هنا وهناك، منذ أواخر القرن الماضي على وجه الخصوص، وصولاً إلى مطلع القرن الراهن. ولا تفوت أي عابر رؤية أن الأجنحة التي تعرض هذه الكتب تحظى دائماً بالنصيب الأوفر من الزحام والتدافع. وكثيراً ما عجزت عن تلبية الطلبات على كتب معيّنة، بل ودفعت عدداً من الناشرين إلى وضع برامج نشر في ضوء أسئلة وطلبات الجمهور الممعن في الماضي، وزادت من تفنّنهم في تجليد وتلوين وتضخيم مجلدات هذه الكتب التي يصل عدد بعضها أحياناً إلى ثلاثين مجلداً، وتوسيع التنقيب في مدافن الماضي بحثاً عن المثير لما أصبح شبه غريزة شائعة يمكن أن نسميها الغريزة الماضوية المعاكسة للغريزة المستقبلية في الاتجاه والغاية.

مبدئياً، لن نتساءل عن إيجابية أو سلبية هذا التوجّه، بل سنحاول فهم هذه الظاهرة والآفاق التي تتحرّك نحوها، ثم نصل في النهاية إلى وضع تصوّر عن تأثيرها.

المعنى الأول لهذا التوجّه هو أن هذه الغالبية من القرّاء تبحث عن معرفة من نوع معيّن، معرفة ليست معاصرة بالتأكيد، بل معرفة قدمتها عقول عاشت في العصور الماضية، معرفة من أهم سماتها أنها موصوفة بالأصالة، وذات علاقة بالقارئ العربي وإشكالات حياته، بالإضافة إلى أنها موضع ثقة تكاد تكون مطلقة.

قراءة التراث من دون وعي منهجيّ مجرّد ظاهرة تعويضية

ومن المستبعد توقّع أن تكون هذه المعرفة مقطوعة الصلة بإشكالات هذا القارئ، ما دام الحماس والحمية كما نلحظ يأخذان بأطرافه وذهنه فينأى عن كل ما حوله، فيتصرّف ويفكر كمن يمتلك أسباباً لا ينفذ إليها وميض شك لرؤية أن سبل المعرفة التراثية هذه ستضيئ جوانب الحاضر، مهما كان من شأن لا معقولية هذا التداخل بين الماضي والحاضر، وبخاصة حين يُعطى الماضي سلطة الطريق الدائم، ويظل الحاضر مجرّد مشاهد لا معنى لها تمر بجواره.

الأمر المهم هو هذه الواقعة؛ واقعة أن تصوّراتِ عقول عاشت في الماضي بكل إشكالاته وخبراته يمكن أن تقدم مساعدة في حل إشكالات الحاضر وخبراته.

منشأ هذه الواقعة فرضية مسبقة تقول إن المعرفة، منهجاً ونتائج، هي عقل كلّي معزول عن عالم التغيّر. أول معنى لهذا، أن ما ورثناه من معارف مجرّد تعبير هذا الكلّي عن حقيقة التجربة الإنسانية المعطاة مرة واحدة وإلى الأبد. والثاني، أن هذه الغالبية من القراّء في اتجاهها نحو التراث، إنما تستجيب لدعوة عدد كبير من المفكرين والباحثين إلى اتخاذ موقف من الماضي. أو هكذا تبدو لنا هذه الظاهرة. ولكن ما مدى صحة هذا؟ 

قد يكون هذا صحيحاً بالنسبة لباحث يمتلك أدوات قراءة منهجية للتراث، ولكنه لا يبدو صحيحاً بالنسبة للمجاميع الكبيرة. هذه الأدوات المنهجية وقيمتها تعتمد على خبرات ومعارف معاصرة، ولا يمكن الرهان على أن الجمهور العام توفر له في العصر الراهن هذا الامتياز المرهق.

الإقبال على كتب التراث بحد ذاته ليس انحرافاً عن الحاضر 

ينتج عن ذلك أمر خطر؛ أن قراءة التراث من دون وعي منهجيّ ستكون ظاهرة تعويضية. بمعنى أنها نوع من التعويض عن مواجهة إشكالات الحاضر وتسميتها وابتكار الموقف الإنساني منها، بقبول إشكالات الماضي وكل ما أنتجه من تسميات  وتفسيرات ومواقف. وهنا يجد الجمهور القارئ نفسه واقعاً في مفارقة يصعب حلّها؛ فهو يمنح التراث سلطة لا يدعيها التراث لنفسه. التراث كقراءة إنسانية للعالم، وكواقعة تاريخية، ملتصق بخبرات زمنه لغة وبياناً وتجربة، بينما المطلوب منه في هذا النوع من القراءة الماضوية الانفصال عن تاريخيته والالتصاق بزمن آخر ما زال بحاجة إلى لغة وبيان وتجربة نابعة من هذا القارئ نفسه.

أخطر ما في هذا النوع من القراءات نتائجه، والتصوّر الذي يرسّخه عن العالم وقضاياه، فيصبح المعاش الراهن مجرد "آخر" و"ظاهر" يتعامل معهما الإنسان واعياً أنهما لا يحملان حقيقتهما بذاتهما، بل أن حقيقتهما سبقت وجودهما.

وهكذا يبدو كل شيء جاهزاً، ويزداد الإغراق فيه كلما ازداد ضغط المعاش وإشكالاته وتعدّدت المجاهيل في معادلاته. ولا نشكّ أن هكذا تصوّر "معرفي" سيضاعف من عمق الجهل واللامعرفة بحاضرنا، ويواصل تعميقهما.

على أن هذه الصورة ستختلف مع اختلاف النهج والأداة. فإذا قطعنا المسافة من القبول إلى النقد، أو من موقف التلقي إلى موقف إعادة القراءة، لا نكون بذلك قد قطعنا صلتنا بالتراث أو دعونا مثلما يدعو بعض السذّج إلى نبذه، بل نكون قد قطعنا المسافة بين ما هو مجرّد ظاهرة تعويضية وبين ما هو أصالة وفرادة، بين ما هو اجترار وخمول وبين ما هو ابتكار وإبداع. 

إن الإقبال على كتب التراث بحد ذاته ليس انحرافاً عن الحاضر، بل على العكس هو اتجاه نحوه، لأن ما يوجّه هذا الإقبال هو الحاضر ذاته. ولكن الانحراف يأتي من طريقين:

الأول، اتجاه القطع مع موضوع التراث، بينما السليم هو القطع مع زاوية نظرٍ إليه، أي بقاء الموضوع قائماً ولكن كيفية رؤيته هي التي تختلف، وهذه الكيفية رهينة بضوء الحاضر ومستواه المعرفي الذي بلغه.

الثاني، اتجاه القطع مع موضوع الحاضر، بينما السليم هو اتجاه القطع مع زاوية أو زوايا نظرٍ إليه، وليس نفيه كحقيقة قائمة، كسياق تاريخي نعيش فيه هو مادة خلاصنا وسقوطنا في آن واحد معاً.

إذا استبعدنا هذين النوعين من القطع، وهما شائعان بدرجات متفاوتة، تبقى المهمة الأصعب، مهمة الأدلة التي نقرأ بها كلا الموضوعين؛ التراث والحاضر. هذه المهمة بدأت تتقدّم في السنوات الأخيرة، بفضل جهود عدد من الباحثين، وتستخدم أدلة مستقاة من مناهج علوم اللغة والتاريخ والاجتماع والفلسفة والآثار. نذكر منها على سبيل المثال، قراءة الطيب تيزيني (سورية)، وقراءة محمد عابد الجابري (المغرب)، وقراءة حسين مروة (لبنان)، وقراءة مالك بن نبي (الجزائر)، وقراءة أنور عبد الملك (مصر). وهي قراءات لا تزال مفتوحة للقراءة، خاصة أنها لا تدعي وثوقية من أي نوع، بل تطرح نفسها كمشروعات بحث بحاجة إلى مواصلة.

السؤال الذي نسأله الآن هو، كم من الزمن تحتاجه أدلة القراءة هذه للوصول إلى فضاء القارئ العربي؟ وكم من الوسائط تحتاجه لتصبح نهجاً في القراءة والمحاكمة؟

إذا نظرنا إلى الأمر بمنطق الظواهر العامة، أي ظاهرة الإقبال غير المنهجي وغير العالم على كتب التراث ونشرها، نعتقد أن هذا الزمن سيكون طويلاً، وأن عدد الوسائط سيكون قليلاً. لماذا؟ لأنه حيث تتكوّن قواعد استشراف الحياة، وحيث تتأسّس القدرات المعرفية (في البيوت والمدارس والجامعات والتجمعات ووسائط الإعلام) لا نكاد نعثر على أثر لهذه الأدلة. الهوة واسعة بين عالمين؛ عالم يبحث عن المعرفة من دون أدلتها، أي مناهجها، وعالم يبحث جاهداً عن الأدلة. عالم التعويض وعالم الأصالة. وأوساط الناشرين، كما نعلم، أكثر ضعفاً من أن تكون قادرة على اقتراح شيء بهذا الخصوص في غياب سوق ثقافي واحد للكتاب والأفكار.

هنا تبرز الحاجة، ليس إلى إدانة هذه الظواهر، بل إلى التعمّق في فهمها وكشف فاعلياتها ومعرفة آثارها سلباً وإيجاباً. فهي وقائع صلبة يعتمد على تحليلها كل جهد فكري جاد.

لقد استبعدنا هنا الحوافز الكامنة وراء هذا الإقبال غير المنهجيّ على كتب التراث، وركّزنا النظر على ما يمكن أن نسميه حافزاً عاماً، أي البحث عن التوازن. وهذه قضية نجد برهاناً عليها في كل يوم، في هذا التشتّت والتدافع الشائعين على صعيد حركة الأفكار في المجتمعات العربية. في الصراع على الأدوار بين "مثقف تقليدي" يكرّر وظيفته وطقوسه في تلاوة النص وتلقينه، وبين "مثقف عضوي" يجد وظيفته في تغيير مناهج القراءة وتغير الحياة على حد سواء.

مهما كانت تفاصيل الدوافع الكامنة وراء الإقبال على كتب التراث، تبقى هناك حقيقة أنها تدفع الآلاف إلى البحث في الماضي عن ضوء، عن مجرد ضوء. وفي هذا السياق تكتسب محاولة المنهجة أهميتها وتبريرها. ولكن ليس بعيداً عن البحوث الميدانية، وعن استكشاف أرضية هذا البحث مشخصة في الموضوع والقارئ والجمهور.

إن انعكاسات الوعي التقليدي غير المنهجي في التعامل مع الموضوعات، وفي ظلّ غياب أي أداة علمية، يمكن أن تحدث تأثيراً سلبياً على الأجيال، بل ويمكن أن تصيب القدرة الفكرية بالعقم، اليوم وغداً وبعد غد. ذلك لأن خلق التوازن الوهمي في الشخصية والثقافة أكثر خطورة من الاختلال نفسه. في الحالة الأخيرة، تظل الإشكالية ماثلة في الوعي على الأقل، أما في الحالة الأولى فإن هذه الإشكالية تنطمس في الوعي وتغيب ولكن تظل ماثلة في العالم المحيط، مع كل ما يجرّه هذا من صدامات مؤلمة وعابثة بين البشر وعالمهم. 


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون