الطريق إلى منزل سوداني.. هذا ما جنته الحرب على ثقافة البلاد

الطريق إلى منزل سوداني.. هذا ما جنته الحرب على ثقافة البلاد

27 ابريل 2023
جانب من المظاهرات الشعبية في الخرطوم، 6 نيسان/ إبريل الجاري (Getty)
+ الخط -

في الرابع عشر من نيسان/ إبريل الجاري، قامتِ المُخرجة الجنوب سودانية أكول جون قرنق ديميبور بجولة في الخرطوم، التي كانت قد وصلت إليها قبل أيام، قادمةً من العاصمة الكِينية نيروبي حيث تُقيم، وذلك في إطار استعدادها للمشاركة بعرض فيلمها التسجيليّ "الطريق إلى المنزل ليس سهلاً". موضوعة الحرب حاضرةٌ داخل الكادر وخارجه، مع ذلك الجوّ مليء بالأمل وتجاوُز مآسي الماضي، التي خبرتها صانعة الأفلام نفسها، عندما قُتل والدها (النائب الأول لرئيس السودان، آنذاك، بعد اتفاقية "نيفاشا")، في حادث تحطّم طائرته عام 2005. 

استُقبلت ديميبور وشقيقتُها بحفاوة، وكان الشعار المرفوع والجامع "السودان شعبٌ واحد". ولم يبقَ من الوقت كثيرٌ حتى تبدأ الجولة مساء اليوم التالي (السبت 15 نيسان/ أبريل)، كما كان مقرّراً بدايةً من "مركز أمّ درمان الثقافي"، قبل أن تُستكمَل حتى الثامن عشر منه، في "بيت التراث"، فـ"جامعة الأحفاد"، وتُختتم بمقرّ مجموعة "سي تي سي". لكنّ أكثر المتابعين للشأن السوداني تشاؤماً لم يتوقّع أن يُقطَع هذا السيناريو بحرب أُخرى، أبى جنرالاها (حميدتي والبرهان) سوى أن يُقدّما طبعةً جديدة منها؛ حرب يريد منها الجنرالان إعادة الصورة القاتمة عن البلاد، التي لم ينتفض شعبُها في كانون الأول/ ديسمبر 2018 إلّا من أجل مَحو تلك الصورة.

لا نتساءل طبعاً في ما إذا كان يحمل عنوان الفيلم نبوءةً ما، فكلماتٌ مثل "الطريق" و"المنزل" ذاتُ حمولة لا تخلو من نشدان للأمان في بلد أنهكته الحروب؛ كما أنّ مضمون العمل يُحيل إلى ذلك، ولكنّ الأمور انقلبت خلال يوم واحد كلَّ انقلاب. حاولت "العربي الجديد" التواصُل مع المخرجة مساء ذلك السبت، مع أمل ضعيف بالوصول إلى إجابة حول خطّة بديلة للعروض؛ محاولةٌ شعرنا أنّ أيّ سؤال فيها سيكون ثقيلاً، وإجابته محسومة سلفاً، إذ لا شيء أوضح ممّا نُعاين. وهذا ما أكّده منظّمو الفعالية في "بيت التراث"، الذين رجّحوا مغادرة ديميبور إلى إحدى الولايات الآمنة، قبل أن تُعلِن هي نفسها وصولها منذ أيام إلى جوبا، عاصمة الجنوب. مع ذلك، اعتبرنا السؤال محاولةً منّا لنقول فيها للفاعلين الثقافيّين: لستُم وحدكم.

محاولات داخل البلاد وخارجها لمواصلة الحراك الثقافي

الأخبار والأيام تتوالى، ولا شيء سوى التأزّم، وهذه المرّة ليس النِيل هو الأفعى، كما وصف الطيّب صالح تقلّبات النهر الفيضانية ذات مرّة، بل هناك ما هو أمرّ وأدهى. هناك شريكان في وأد أيّ فعل سياسيٍّ في البلاد منذ أربع سنوات، ومتورّطان بكلّ مذابح ما بعد الثورة، وعلى رأسها مجزرة القيادة العامة؛ هناك شخصيّتان نهمتان -بلا ذرّة خجل- للتطبيع مع "إسرائيل" (أفادت تقارير أخيرة عن توسّطها بين الجنرالين)؛ شخصيّتان قرّرتا أن تُصفّيا الحسابات المُبيّتة في شوارع الأحياء وبين المدنيّين. 

هي الأحياء نفسها التي ذكرها عبد العزيز بركة ساكن في روايته "مُخيِّلة الخندريس"، رواية لا يُمكن لي أن أنساها، بحُكم أنها آخر رواية كنتُ قد قرأتها في سورية قبل مغادرتها. فأدب بركة ساكن يصوّر قعر الهامش ومأسأته، يروي الطفولة وهي تُسحَق تحت وطأة الفقر، والتي عُدتُ لأراها حيّة ماثلة أمام عيني، بعد وصولي إلى السودان في مثل هذه الأيام قبل سنوات. أمّا أول رواية قرأتها في بلدي الجديد، فكانت "بلاد المنافي" للسورية نجاة عبد الصمد، في "مكتبة المركز الفرنسي" بالخرطوم، وكلّ ما سبق كان محض مُصادفات، دون أيّ تخطيط. أسترجع هذا المشهد مع محاولتي التواصُل مع "المركز الفرنسي" ومديريه، بوصفه أحد الفضاءات الثقافية في العاصمة المثلّثة، إلى جانب "غوته" الألماني و"يونس إمره" التركي، وهذه المؤسّسات كلّها أُغلقت مع إعلان الدُّوَل التابعة لها إجلاء رعاياها.

الصورة
آثار القصف على مبنى المركز الثقافي التركي "يونس إمره" في الخرطوم (Getty)
آثار القصف على مبنى المركز الثقافي التركي "يونس إمره" في الخرطوم (Getty)

الثقافة في زمن الحرب... هل نعود بهذا إلى الأسئلة المعقّدة، التي تتراتب مع شبيهاتها لتشلّ قدرتنا على الإجابة؟ ماذا عن أنباء خروج المشافي من الخدمة مثلاً، وانهيار تغطية الإنترنت إلى أقل من 2 بالمئة؟ بالمقابل، ماذا عن إصرار "بيت التراث" على دعوته مجدّداً، رغم أزيز الرصاص، عبر حسابه في "فيسبوك"، للاحتفال بـ"اليوم العالمي للتراث" في 18 نيسان/ إبريل؟ ودعوة اللجنة الثقافية في "نادي أبناء وادي حلفا" لتوقيع كتابين صدرا حديثاً للباحث ميرغني ديشاب، مساء الأحد الماضي؟ وماذا عن إعلان مشاركة فيلم "أجساد بطولية" للمخرجة سارة سليمان في "مهرجان مالمو الدولي" أيار/ مايو المُقبل؛ ومشاركة فيلم "وداعاً جوليا" للمخرج محمد كردفاني في "مهرجان كانّ السينمائي"؟ لا نعدّد هذا بغرض تقديم "كشف حساب"، بل للنظر إلى ما سبق بوصفه مشهداً حيوياً، وأنّ الواقعية ليست تلك الصفة السياسية المنفّرة دائماً، إنما، في أحد وجوهها، هي التفاعُلات المُباشرة بين الناس، وفي القلب منها الثقافة.

من ناحية أُخرى، حَريٌّ أن نتساءل، لماذا النشاط الثقافي في بُلداننا هشٌّ، لدرجة أنه ينكفئ ويتقلّص عند أوّل اضطراب؟ أليس من المفترض أن تكون الثقافة فعلَ قوّة بذاتها؟ والإشكال أعمق في الحالة السودانية، التي تجمع عدّة تناقضات؛ فمن جهة، نحن نُدرك تماماً الدّور الذي لعبه مثقّفو البلاد خلال السنوات الأربع الماضية، ومحاولة الكثير منهم الوقوف بوجه العسكر، والانحياز غير المشروط لحكومة مدَنية انقلب عليها العسكر في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وهذا ليس غريباً، حيث الحياة السياسية والثقافية امتداد لتراث حافل بمواجهة ديكتاتوريات النصف الثاني من القرن العشرين، على اختلاف طبَعاتها. 

يجد المثقفون أنفسهم بمواجهة مليشيا منقضّة على الدولة

لكنْ، رغم كلّ هذا الزخم، ومع ما أبدته النقابات والتجمّعات المِهنية من نشاط لافتٍ قُبيل عام 2019 وبعده، تبقى البُنية الثقافية في البلاد مفتقرة، من جهة أخرى، إلى المؤسّساتية القويّة، وهي فوق كلّ ما سبق، تُواجه اليوم الكيان الجنجويدي الناشئ خارج الدولة، ويريد الانقضاض عليها. في هذا السياق، أصدر"اتحاد الكتّاب السودانيّين"، قبل أيام، وبعد اجتماع عُقد في "دار نقابة الصحافيّين" بالخرطوم، بياناً أخذ فيه الموقّعون مسافةً من كِلا الطرفين، مستشعرين "الخطر الداهم الذي يستوجب على الجانبَين الدعوة لوقف إطلاق النار، وتحكيم صوت العقل". ثم تبنّى ما جاء في البيان مثقّفون وتجمّعات أُخرى، فبلغ عدد موقّعيه 1500. ولا نحتاج طول تدقيق في جوهر البيان، حتى تتأكّد لنا الدعوة القديمة التي ما انفكّت المُطالبات بها من كلّ القوى المدنية: "الجيش إلى الثكنات، والجنجويد ينحلّ".

لسنا هُنا بصدد تقديم تحليل سياسي طبعاً. وبما أننا بدأنا بعدسة ديميبور التي تاهت بين طريقٍ ومنزل، يُمكن أن نختم أيضاً مع عدسة أُخرى. فقبل شهر من الآن، عرَض صانع الأفلام اللبناني علي شرّي فيلمه "السدّ"، الذي صوّره في مدينة مَرَوي السودانية، وفيه يُعاني بطلُ الفيلم من قُرح جِلدية، بينما يعيش حياةً مُنعزلة والبلاد مُلتهبة بالاحتجاجات التي أنهت الحُكم السابق عام 2019. رمزيّة القروح السلطوية التي تنهش أجساد السودانيين قد تبدو بدهية نوعاً ما، لكنّها اليوم تتفشّى أكثر فأكثر. أمّا السدّ، فبانهياره لم يكشف عن "نهرٍ أفعى"، بل عن مليشيا "الدعم السريع"، التي لا استعارة أدبية أو بصَرية يُمكن أن توصّف حال تفسّخها.

المساهمون