الشعر العربي وإشكالية التعريف: تعليق على مقالتَي عباس بيضون

06 اغسطس 2022
أسامة بعلبكي/ لبنان
+ الخط -

استمتعتُ بقراءة مقالتَين للشاعر والناقد عبّاس بيضون في "العربي الجديد" بخصوص قصيدة النثر العربية وتحوّراتها. وهاتان المقالتان إضافة نقديّة للوعي الشعري العربي الحديث. جاءَ في المقالتين أنّ قصيدة النثر مرّت بمرحلتين؛ تتعلّق الأولى بالتأسيس من داخل التراث العربي، وبالنبرة المُستلّة من رنين التراث، وبتثبيت المعنى من خلال القصائد النثرية التي تتّكِئ على التراث كمرجعيّة فكريّة وصوتية، وخصوصاً النص القرآني منه.

أمّا المرحلة الثانية فتتعلق بتجاوُز قصيدة النثر للخَطابة والمعنى، متحيّزةً في ذلك لِما هو آني حسّاً وتجريباً. فـ الشعر هنا يُحلّقُ في فضاءٍ لا رواسي له ولا مآلات، يتساقطُ كأوراقِ الخريف، ويمضي الوقتُ ليزهرَ شعراً من خلالِ تجلٍّ آنيٍ، فلا أرضَ ولا سياق تحملُ المعنى وتنطقُ برسالة، فكأنّ الشاعر هنا ومضاتُ أمواجٍ عابرة في بحرٍ متلاطم، شيمتهُ الدّوار الأبدي.

من ناحية يبدو هذا الطرح من عباس بيضون موفّقاً حيثُ يروي سيرورة قصيدة النثر العربية بصورةٍ تتناسب وتجارب الكثيرين من الشعراء العرب، أو على الأقلّ رؤيتهم لهذه السيرورة. ومن ناحية أُخرى، أرى أنَّ هذا الطرح اختزاليٌ، ولا يدعُ مجالاً لحقيقة أنَّ قصيدة النثر العربية في كثيرٍ من نماذجها هي بنت التراث العربي والعالمي، وأقصد بالعالمي في إشارة إلى شعراء مُطّلعين على آداب عالمية أُخرى غير العربية. وبالتالي فإنّها وإن تحوّرت وتشعّبت إلّا أنّها لم تأتِ من فراغٍ، ولم تتطوّر بالطريقة المستقيمة التي أشارَ إليها ببراعة بلاغية الأستاذ عباس بيضون.

أكتبُ هذا وكلّي إعجاب بالمقالتين الكبيرتين بما أنّهما قد تنطبقان على كثير من نماذج الشعر العربي الحديث بشكلٍ عام. ومع ذلك فإنَّ ما ذهبَ إليه عباس بيضون يُوحي وكأنَّ الشعر العربي، والنثري منه على وجه الخصوص، تقدّم من خلال الخروج من عباءة التراث، نحو الفضاء الوجودي الآني. النقطة هنا أنّه ربما ازدادَ زخم الآني والوجودي في قصيدة النثر العربية، والقصيدة العربية الحديثة بشكلٍ عام، إلا أنَّ ذلك لا يمنع من القول إنّه لم ينقطعْ ما هو وجودي وآني عن القصيدة العربية بالأساس، قديماً وحديثاً.

كلُّ قصيدةٍ ومضةُ تجلٍّ، وتراثٌ من وحي تراثٍ أكبر منها

ومن هنا فإنه وبالرغم من ضرورة الإشادة بالمقالتين المذكورتين كتأطير نظري مُبدع ومفيد، إلا أنَّ القصيدة العربية الحديثة على وجه التحديد لا تنطبقُ عليها فكرة التقدّم العلمي أو المراحل الواضحة والصارمة. فصوتُ الشعراء العرب بقي متعدّداً في كلِّ الأوقات تقريباً، وخصوصاً بعد قصائد جبران خليل جبران النثريّة، فتلك وإن طغى عليها الجانب الروحي والرسائلي إلّا أنّها أيضاً كانت غنيّة بالإيحاءات الآنية، وحوادث اللاوعي اللغوي، إذا جاز التعبير، وزاد ذلك لاحقاً في قصائد نثرية كثيرة لشعراء عرب.

إذن، لا يوجد خطٌّ واحد لقصيدة النثر العربية ولا القصيدة العربية بشكلٍ عام، وإن اتّسمت المراحل الأخيرة بأصوات ونبرات جديدة تَدّعي تجاوزَ أو الخروج من عباءة التراث، لكنّها تبقى كلّها تشعُّبات من التراث العربي الكبير والمتنوِّع، قديمه وحديثه معاً، ومن التراث الإنساني أيضاً. والتراث هنا لا يعني التوغّل في الماضي، واستحضاره، بل حياة لغةٍ تتنفس من بيئاتٍ مختلفة ومن مصادر شتّى، إنّه رصيد الحاضر من الماضي، ووعدُ المستقبل المعرفي والحسّي من كلّ الأزمان.

وهنا أتطرّقُ لأمر آخر يتعلّقُ بكثرة الإشارة إلى ضرورة تحرير الشعر من التراث، ومن المعنى والرسائل، فالشعر هنا إيحاءات ورموز، وليس خطاباً سياسياً أو ثقافياً أو حتى فنّياً. كلُّ قصيدةٍ تراثٌ بذاتها من وحي تراثٍ أكبر منها، ومضةُ تجلٍ، لا إشراقة معنىً لا يتحرّك. أرى أنَّ هذه النظرة للشعر، سواءً النثري أو التفعيلي منه، هي أيضاً اختزاليّة، ولا تأخذُ بعين الاعتبار أنَّ للشعرِ أوجها عديدة، والقول بأنَّ على الشعر أن يكونَ كذا أو كذا وفقط، هي حصر واضحٍ لمآرب وتجارب وأحاسيس البشر المتنوّعة، وإمكانية التعبير عنها بأشكالٍ مختلفةٍ فيها جماليات وأصوات متنوّعة أيضاً. وبالطبع لا تعني ضرورة قبول أذواق ومسارات شعريّة مختلفة أنّ الشعر سوقٌ مشاع لمن أراد أن يبيعَ فيه ويشتري منه كما يريد. فالشعر مادّة جماليّة بالأساس، وإذا كان ذلكَ الجمال لن يحتاجَ إلى بوّاب أو رقيب مشاعر واحد، بل سيراهُ كلُّ شخصٍ وسينهلُ منه حسب محتوى شخصيّته المعرفية والحسيّة.

إذن الجَمال، وإن عَبَّرَ عن قُبحٍ ما، هو معيار للشعر، وأقصد بالجمال في الحديث عن الشعر: تضامنُ وانصهار العبارة مع الصورة وتضامن الصورة مع الصوت، لتتجلّى حياةٌ ما في حالةٍ لغويةٍ لها أبعاد روحيّة أو رمزيّة، وبالنهاية سامية، ورفيعة المستوى، وغير مبتذلة، بحيثُ تلامسُ الإنسان أينما كان.

أمّا تقنين المعيار الشعري على أنّه حالة أو نزوةٌ لغوية عابرة، ولا يحملُ معنىً ومنزّه عن السياق فهو تضييق للشعر والشعراء ومآربهم المتنوعة بتنوّع البشر. ربما يحتاجُ الشعر - إذا احتاجَ لشيء - فإلى التحرُّر من أيديولوجيا الانغلاق، تلك التي تُقصي الآخر، وتُمعنُ في الرنين على حساب الدلالة والإيحاء والتجلّي، لا أيديولوجيا الثوابت السياسية التحرّرية. ويحتاجُ إلى إيقاع داخلي يجعلُ من القصيدة حديقة بألوانها وأصواتها، وإلى تماسكٍ صوتي ينبضُ بلغةٍ حيّة يحتفي أو يتجلّى من خلالها الفرد الشاعر كمكنون نفسي وصدى لغوي. أمّا الأيديولوجيا التي تتغلغل في الكراهية والانغلاق فهي نقيض الشعر الحرّ، نثراً كان أم شعراً مُفَعّلاً. سوى ذلك فالقصيدة فضاءٌ كبير يلجهُ من يأوي إلى فيافيه، ويستلهمُ طاقتهُ الكامنة من الوجود والكونِ الدفين.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون