الشعبوية والذاكرة الجمعية

19 فبراير 2021
من مظاهرة في برلين تظهر فيها أعلام ألمانية قديمة، 2020 (Getty)
+ الخط -

تُوصَف الشعبوية عادةً بأنّها خطاب سياسي ذو نفَس سلطوي، يقدّم حلولاً بسيطة وغالباً ما يَستغل سياسياً الصور العدائية تجاه "الآخر" التي تختزنها الذاكرات الجمعية للمجتمعات التي تشهد انبعاثة جديدة للشعبوية. غير أنه غالباً ما يُساء عربياً فهم هذه الحركات ـ ولا سيما الأوروبية منها ـ من كونها يمينية التوجّه فحسب، بينما قد تتخد الشعبوية ملامح يسارية أيضاً.

ولتسويق ذاتها، تعمد الشعبوية إلى تقسيم المجتمع إلى "شعب صالح" و"نخبة فاسدة"، أو بصفة عامة إلى "نحن" و"الآخر". وتعدّ هذه الثنائية من أهم الاستراتجيات التي توظفها الشعبوية في عمليات الاستقطاب، التي تمارسها كل أطيافها، بما فيها اليسارية.

إلا أنه وبخلاف الشعبوية اليسارية، التي تعادي النخبة الاقتصادية، فإن "الآخر" في الذاكرة المصطنعة للشعبوية اليمينية يتجسّد بالأساس في المهاجرين واللاجئين أو الأقليات الإثنية أو الدينية، الذين لا يُنظر إليهم على أنهم جزء حقيقي من "الشعب". وتسعى الذاكرة الشعبوية اليمينية إلى تهميشهم رغم مواطنتهم الكاملة، وذلك عبر عزلهم في خانة "الآخر" الضيّقة ولو بشكل تخيلي، بعد أن اهتمت النخب الليبرالية بهم - وفق السردية الشعبوية اليمينية - أكثر من اهتمامها بالشعب "الحقيقي"، الذي تتخيّله الشعبوية اليمينية وتدّعي سياسياً أنها الوحيدة القادرة أخلاقياً على أن تدافع عنه في أزمنة الاغتراب القومي والتبدّد الهوياتي، مع أنها هي ذاتها "نخبة" في مواجهة نخبة ليبرالية باسم "الشعب" المُتخيل. وهذا تحديداً ما يُميّز الشعبويات اليمينية في أوروبا (من شرقها إلى غربها)، ممّا يجعل الحدود بينها وبين اليمين العنصري المتطرّف ضبابية إلى حد كبير. فهل انعدمت الحدود بينهما إلى هذه الدرجة؟

تهدف السياسات الشعبوية إلى صناعة ذاكرة مُغلقة 

تقدّم لنا الحالة الألمانية إجابات جزئية ومؤقتة لهذا التلاقي الحاصل بين الشعبوية اليمينية والفكر اليميني الشوفيني؛ فبينما تُعلن الحركات اليمينية المتطرفة (سياسية كانت أم لا) بوضوح شديد رفضها القاطع للوجود السياسي الليبرالي بشكله الحالي المتوارث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مقدمة ذاتها من كونها البديل السياسي والاجتماعي للشعب بوصفه كتلة ثقافية وإثنية متجانسة من منظور قومي عنصري وليس من منظور مُواطِني تعدّدي يضمن الحقوق المتساوية حتى في زمن الحاجة الديمغرافية المُلحة للمواطن "الآخر"، نجد أن الشعبوية اليمينية تسعى بخلاف الانغلاق اليميني إلى أن تلعب دوراً بارزاً في الحياة السياسية الديمقراطية، إلا أنها تستلهم من الفكر اليميني المتطرف العديد من أسسه الإيديولوجية الجاهزة في لعبتها السياسية، لكن من دون أن تشكّل هذه الأسس نواة أيديولوجية ثابتة لدى الشعبوية اليمينية، التي تظل بخلاف الفكر اليميني العنصري،  خطاباً استهلاكياً بالأساس، مما يضمن لها البقاء في محيط ديمقراطي يرفض ميولها اليمينية، وهذا ما نُلاحظ بشكل دقيق في مسار "حزب البديل الألماني" الذي تأسّس سنة 2013، ليلج البرلمان الاتحادي الألماني سنة 2017 بعد نجاح انتخابي، كان بالأساس نتيجة توظيف سياسي لذاكرة جمعية لا تزال تنظر بنظرة فوقية للآخر الدوني عنها كما لو أنها لم تعالج بعد كل حروقها ومحارقها التاريخية في أزمنة ما بعد الحرب العالمية الثانية. 

ظاهرة الأحزاب الشعبوية اليمينية لا تقتصر على ألمانيا، بل نجدها ـ كما هو معروف ـ في جاراتها الدنمارك والنمسا وفرنسا وإيطاليا بل وحتى في سويسرا. وهنا يُطرح التساؤل حول من ينتخب الأحزاب الشعبوية بطريقة ديمقراطية؟ هل هو فعلاً "الشعب" الحقيقي، الذي تتخيّله الحركات الشعبوية اليمينية؟ والأهم: بأي هدف؟ 

تنزع صفة الإنسانية بمجرّد التفريق بين "هم" و"نحن"

تخبرنا الاستطلاعات المُنجزة، أن ناخبي الأحزاب الشعبوية اليمينية ليسوا بالضرورة من الطبقات الدنيا للمجتمعات الأوروبية، بل هم بالأساس من صميم الطبقة الوسطى الميسورة إلى حد ما، وبخاصة تلك التي تقطن المدن الصغيرة والأرياف، التي لم تتحوّل فيها التعددية العرقية واللغوية إلى واقع يومي كما في كبريات المدن الألمانية. لذا يرى عالم الاجتماع الألماني هولغر لينغفيلد أن سبب الدعم الانتخابي للطبقة الوسطى الألمانية لحزب البديل الشعبوي ليس الوضعية الاجتماعية، بل عدم الرضى العام عن الديمقراطية الليبرالية وميولاتها النيوليبرالية وبالاغتراب الإجتماعي والحنين الجمعي إلى المألوف الثقافي، وهو إحساس هوياتي عام تلقفته الأحزاب الشعبوية اليمينية بتركيزها على فكرة إعادة إحياء الماضي القومي الجمعي من أجل "الدَود" عن الهوية الإثنية المُتخيلة.

من هذا المنطلق لا يمكن تفسير النجاح الانتخابي للأحزاب الشعبوية بأنه ردة فعل مباشرة على حضور الآخر ولا سيما بعد حركة اللجوء العربية ابتداء من سنة 2015 فحسب، بل هو بالأساس ردة فعل على أوضاع اقتصادية واجتماعية تراكمت نتيجة لعوامل متنوّعة، تختزلها الشعبوية اليمينية في سياسات الهجرة واللجوء الأوروبية، تدعي أنها معارضة لها، وهو اختزال استهلاكي يتلاقى مع الذاكرة الجمعية الشعبية، التي ترى في حضور "الآخر" حتى ولو كان حضوراً تخيلياً، تفسيراً سهلاً وجاهزاً للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي شهدتها ولا تزال المجتمعات الأوروبية. في هذا السياق يشير أحد الاستطلاعات الألمانية إلى أن 21 % من المواطنين الألمان لديهم مواقف شعبوية يمينية، بما فيها عدم الثقة في الديمقراطية، وازدراء اللاجئين. لكن في المقابل أعلن أكثر المستجيبين رفضهم للتصورات الشعبوية اليمينية.

إذا كان لكل شعبوية متخيلاتها الخاصة التي تسعى إلى نشرها، فإن لدى الشعبوية اليمينية متخيلات فوقية عن الذات والآخر تتقاطع مع محتويات انغلاقية لا تزال حاضرة في الذاكرات الجمعية للعديد من المجتمعات الأوروبية حتى ولو لم تشهد تلك المجتمعات حركات هجرة ولجوء كبيرة إليها مثل هنغاريا على سبيل المثال لا الحصر، غير أن الشعبويات اليمينية أظهرت بوضوح أنه ليس من الصعب استغلال تمثلات وأساطير الذاكرات الجمعية إلى درجة الاستهلاك السياسوي في غياب معالجة نقدية لثقافة التذكر المجتمعية، وهذا ما نشهده حتى في بعض دول المنطقة العربية تارة ضد "الآخر" العربي اللاجئ وتارة ضد الخصم "الأيديولوجي"؛ فهدف الشعبوية هو صناعة ذاكرة مُغلقة وضمان انسجامها الداخلي باختلاق "أعداء" لها، تكاد تنزع عنهم صفة الإنسانية لمجرد أنهم "هم" وليسوا "نحن"! 


* كاتب مغربي مقيم في ألمانيا

المساهمون