الشريف محي الدين حيدر.. تلك الأصابع التي تفكّر

09 يوليو 2021
(غلاف أحد ألبومات الشريف محي الدين حيدر)
+ الخط -

في نهاية قرنٍ يَغلي بالتغيّرات الاجتماعية، لفَظَ ابن الشريف علي حيدر باشا، آخرِ أمراء مكّة المكرّمة، الشريف مُحي الدين حيدر، آخر أنفاسِه. أبدى محي الدين منذُ نعومَةِ أظفاره قدرةً هائلةً على تجاوز زمنه، وتمكّنَ بسرعة من التربّعِ على عرش الموسيقى.

سيَرُ الفنانين المجدّدين حول العالم غنيّةٌ بالالتماعات التي يلتقطونها منذ سنوات الطفولة. فالأطفال يستخدمون خيالهم وقدراتهم الفنية كوسيلة لسبر أغوار محيطهم. تنبثق عن اكتشاف العالم عند الأطفال ألعابٌ حيويّةٌ ومبتكرةٌ، ويصبحُ الأطفالُ أبطالَها. محي الدين، الطفل النابغة، المولود عام 1892، بدأ ولعهُ بالموسيقى بين الثالثة والرابعة من عمره، ولم ينسَ في حياته الأغاني التي تعلّمها وهو في الخامسة والسادسة من العمر، مثل "Üsküdar’a Gider İken" و"Kabağı da Boynuma Takarım" والحركة الأولى من افتتاحية عاصم بك على مقام الراست. وفي الصباح قبل تنظيف البيت، يجمع محي الدين الأوتار المرميّة على الأرض، لأن شهوة الإبداع كان تتملّكه بالفطرة. لم يكن يملك في تلك الأيام شيئاً سوى آلته الموسيقية الأولى، التي صنعها من ثلاث قطع خشبية مرمية على الأرض، حاولَ أن يَشُدّ عليها الأوتار التي وجَدَها في تلك الغرفة.

حصل محي الدين حيدر لاحقاً، في العاشرة من عمره، على عودٍ صغيرٍ وأخفاه تحت الأريكة في غرفة الضيوف المغلقة عادةً، ليُبعدَه عن العيون الفضولية. لم يوافق والدُ محي الدين على ولَعِهِ بالموسيقى، مخافَةَ أن يؤثّر هذا على دروس الهندسة والرياضيات والتاريخ واللغة الإنكليزية. ولكنّ هذا لم يمنع الطفلَ الصغيرَ من تأليف أعمال فنية زيّن بها ذلك العالم الجديد الذي ابتكره لنفسه. كان للشريف محي الدين ملاكه الحارس أيضاً: مربّيته. بقي مفتاحُ غرفةِ الضيوفِ مع المُربّيَة، التي كانت واحدة من الأشخاص الذين ذلّلوا كلّ العوائق أمام رغبته وتصميمه على النجاح. وجرت اللعبة مجراها.

وسّعَ محي الدين النطاق الصوتي للعود ووظّفهُ من جديد

يخلد الجميع إلى النوم، فتُضاءُ شمعةٌ عند مُنتَصفِ الليل، ويأخُذُ محي الدين العود بين ذراعيه بحماسة وحبٍّ، ويَجري به في الممرات الثلاثة التي تفصل غرفته عن غرفة الضيوف. كان يريد في الحقيقة كَسْر أبعاد الزمان والمكان، ليعيش عُزلَتَهُ بعيداً عن المدينة بأسرها. توحَّدَ الزمان والمكان في خيال الطفل.

أمام نافذته المُطلِّة على المنظر الخلّاب لمضيق البوسفور، وعلى واحدة من أجمل تلال تشامليجا، سرقَهُ الوقتُ وأنهَكَهُ الإرهاق. وعندما رأى مآذن إسطنبول، تلك الشموع الأثيريّة التي تضيءُ سماءَ المدينة، انتبه، وخوفاً من اكتشافِه مع تباشير الفجر، أعادَ العودَ إلى مخبَئِهِ، وتسلّلَ مجدّداً إلى سريره. بقي على هذه العادة طويلاً، ولم يكن ليدرك أثرها عليه لولا وقوعه في براثِنِ المرض، نتيجة ليالي السّهر الطويلة تلك. لم يُصَبْ بأضرار كبيرةٍ لحسن الحظّ. أدرَكَ هذا الطفل سِحرَ يديّ الأم عندما أقعدهُ المرض. اليدان المباركتان اللتان كانتا تُداعبانِ جبينَهُ، بثّتا الحبّ والأمان في قلبِهِ وعقلِهِ وروحِهِ بكلماتٍ من قبيل "لا تقلق يا بُنيّ". منَحَتْهُ تلك الأحاسيسُ معانيَ جديدةً لمَسَتْ روحَه، وحملَ هذا المرض، لحسن الحظّ، بشائر جيّدة. فمنذ ذلك اليوم، سُمِحَ لمحي الدين بالتمرُّن على العزف بعد انتهائه من فروضه المدرسية. وتحوّلَ الحُلم إلى حقيقة. فبعدَ فترة، أخذ أفراد الأسرة وضيوفُ والده المقرّبون يأتونَ إلى غرفتِهِ للاستماعِ إلى عزفِه.

لم يكن لشيء في العالم أن يقف في وجه قَدَرِ محي الدين حيدر أو يحرمهُ من الحياة الموسيقية التي كان مصمّماً على أن يعيشها. لقد قرّر في سنّ مبكّرة الطريقَ التي سيسلكها، والإسهامَ الذي سيقدّمه لجمهورِ فَنِّه، والسعادةَ القادمة التي تنتظرُها أجيالٌ من عازفي العود.

حياة محي الدين كطفل من الأشراف، مع العائلة التي جاء منها، والتي وصلت ثقافة الشرق بثقافة الغرب، منحته الفرصة ليقدّم موسيقاه في أماكن وبيئات مختلفة. حوّل محي الدين النغمات العادية التي تتدفّق من الآلة الموسيقية إلى ألحان خالدة. وأبدَعَ في العزفِ على العود والتشيلّو، وصَهَرَ الشرقَ والغربَ في بوتقةٍ واحدة. لا تروي المصادر المكتوبة عَطَشَنا حول أسلوب العزف الذي اّتبعه. ولكنّ محي الدين كان العازف المخضرم الذي تمكّنَ بحِرَفيّةٍ عاليةٍ من إحياءِ الماضي المفقودِ ووضعِهِ على كتفي المستقبل. حقّقَ محي الدين تحوّلاً عميقاً في هذا المجال، كعازفِ عودٍ منفرد وأستاذ حقيقي بارع في فنّه.

في نيويورك عام 1928، كان على مسرح "تاون هول"، المسرح الذي سار عليه "العظماء الكبار"، كما يُطلَق عليهم في تاريخ الموسيقى، أو عظماء المدينة، مثل عازف التشيلّو الكبير بابلو كاسالس (1876 ــ 1973)، وعازف الغيتار الشهير أندريس سيغوفيا (1893 ــ 1987). قدّم محي الدين حيدر في هذه الحفلة مع الفرقة الموسيقية عرضاً تاريخياً حقيقياً على العود والتشيلّو. أمّا الجمهور في تلك البلاد البعيدة، فقد كان مؤلّفاً من نخبة عازفي الكمان على الإطلاق، مثل جاشا هيفتز (1901-1987)، وفريتز كرايسلر (1875 ــ 1962)، وميشا إلمان (1891 ــ 1967)، وأقرب أصدقائه عازف البيانو ليوبولد غودوفسكي (1870 ــ 1938). بعد ذلك الحفل، لم يتوقّف التصفيق والتهليل، وتناهت أصوات من الصالة تصرخ "هذا باغانيني العود...".

لم يعتبر محي الدين حيدر العود مجرّد أداة موسيقية، بل جعله ــ بفضل الأسلوب المختلف المبتكر والصورة الحديثة التي قدّمَهُ فيها ــ منتَجَاً قائماً على الإبداع والتقنية، وكان محي الدين هو الشخص الذي أعاد بناءَ شخصيةٍ بارزةٍ ومتفرّدِةٍ لهذهِ الآلة. تميّزتْ نظرتُهُ إلى العالم، وأسلوبه في العزف على العود، بالنظرة العلمية العقلانية. ففي القرن العشرين، حيث أخذت التأويلات بين الثقافات المكتوبة والشفوية شكلاً تاريخياً مختلفاً، وحظي الشكل الملموس بقصب الأسبقية على المفاهيم المجرّدة، كان لكلّ تأمُّلٍ تصوُّرٌ ملموسٌ على الورق، ليتحوّل في ما بعد إلى "أنا". فهذا العصر عصر المبدعين المتفرّدين الذين يصبّون أرواحَهَمْ في أعمالهم الفنية التي تدلّ عليهم وحدهم.

لا يزالُ تراثُه الموسيقيّ يمدُّنا بمصادرَ صوتيّةٍ فريدةٍ

تقول المصادر المتنوّعة إن الشريف محي الدين أوّلُ من ألّفَ موسيقى لآلة واحدة في التراث الموسيقي الشرقي الحديث. وقام، إلى جانب وضع المقطوعات الموسيقية، بتأليف سبع مقطوعات للعود على لون الساز السماعي، العثماني الكلاسيكي، وثلاث أغنيات وضع لها الموسيقى.

وسّعَ محي الدين حيدر النطاق الصوتي للعود أبعد ممّا كان معروفاً ووظّفَهُ بطريقةٍ جديدة. ووضعَ نغماتٍ فالتة، أو حُرّة، كانت تُحبَسُ سابقاً في أوكتافين ونصف على العود، ورفَعَها إلى أعلى من أربعة أو أربعة ونصف الأوكتاف في بعض الأحيان. لقد تحرّرتْ النوتاتُ الموسيقيّة على يديه بالفعل. لا يمكنُ تخيّلُ مدى السيطرةِ التي حقّقها على وترٍ واحد فقط، والسّرعة التي عزَفَ بها على ذلك الوتَرِ المُهمَلِ الذي يُسمَعُ صوتُه بالكاد في العزف، والحركات المستقلّة التي نفّذَها دونَ أوتار. تلك كانت السّماتُ الأبرزُ التي حَمَلَتْ توقيعَه. كان يتمتّعُ بتفرّد الفنان في أصابعه، تلك الأصابع التي تفكّر. ربما كان الشاعر جمال ثريا مَن فضَّلَ الأصابع التي تحافظ على خيط التواصل بين القلب واليدين عندما قال: "الطريق الأقصر بين قلبين، ذراعان ممتدّتان تتلامُس أطرافُ أصابعهما من فترة إلى أخرى". وهكذا كان محي الدين حيدر تماماً. ظهَرَ مفهومُ إقامةِ الحفلات الموسيقية، باستخدام الآلات الموسيقية الشرقية، في تركيا لأول مرّة في عصر جميل بك الطنبوري، وخرَجَ محي الدين حيدر بها إلى العالم بأسره.

دوّن محي الدين حيدر منهجاً للعود بهدف فهم تراثِهِ والتشبُّعِ بماضيه، ثم الانطلاق في بداية جديدة كليّاً. زيّن محي الدين، الذي كان يتوقُ إلى عالمٍ بعيدٍ وراءَ الأفق، من طفولَتِهِ المُلهَمة وموهبتِهِ المُبكّرة، عناوين مؤلفاته بأسماء مثل: "الطفل الراكض"، و"أغانٍ للأطفال" ــ وهي من أهم مؤلفاته. يتكثَّفُ الوعي، ثم تأتي الفرديّة والخصوصيّة والخيال الحرّ الذي ينطلق بحماسة لا مثيل لها. تعرّف محي الدين على عالمه الداخلي. وعندما أراد الابتعاد، عبّر عن ذلك من خلال مؤلفات أخرى، مثل "لو كان لي جناحان" (Kanatlarım Olsa Idi). الصوت وسيطٌ بالنسبة إلى شخص يتمتّع بحساسية محي الدين حيدر. وقد كانت الحفلات بمثابة المحطّات الصوتية التي تبثّ عبَق اللحظات الفريدة في حياته. وتبثّ ألحانُه الحياة في جماليات التكوين العاطفي. وتَبني هذه الألحان والمشاعر علاقةً مع البلاد والقارات الأخرى.

برع محي الدين حيدر في الرسم أيضاً، ليتعرّف إلى المتعة الخالصة في إدراك العالم من خلال رَسْمِه، فرَسَمَ كعاشقٍ للفنون الجميلة، مثل والده، الذي ورث منه أيضاً شغفه بالخيل. كان محي الدين حيدر يجيد أيضاً العربية، والفارسية، والفرنسية، والإنكليزية. في 8 نيسان/ إبريل 1950، تزوّج من صفية آيلة، الفنانة المرهفة. ولا بد من التأكيد على أن المكانة الاستثنائية المميّزة في حياته كانت لزوجته ومحبوبته آيلة. وكانت لبعض الشخصيات المحترمة ــ مثل جمال رشيت ري، وإسماعيل حقي إزميرلي، ومحمد عاكف آرصوي، ومسعود جميل، ويحيى كمال بياتلي ــ مكانة مهمّة في حياته.

ولكن ماذا عن طلّابه؟ في عام 1936، لبّى دعوة َالحكومة العراقيّة، ليعمل مديرٍاً ومعلّماً لمدّة 12 عاماً في المعهد الموسيقي الذي أنشأه في بغداد. وكان من طلابه أبرزُ عازفي العود في العالم العربي، مثل الأخوين منير وجميل بشير، اللذين سارا على خطى أسلوبه، بالإضافة إلى الفنان سلمان شكر.

يمكن أن نعرّج هنا على بعض الكتابات من الصحافة المحلّية في ذلك العصر. فقد قال عنه عازف الكمان الإسباني الشهيرغاسبار كاسادو (1898 ــ 1966)، في مقابلة مع جريدة "أكشام" المسائية، في كانون الأول/ ديسمبر 1950: "خلال زيارتي إلى إسطنبول، سُعدت بفرصةِ الاستماع إلى العود. عزف أمامي الشريف محي الدين في أحد الأيام، وقد كانت أول مرّة أستمع فيها إلى هذه الآلة الموسيقية. وما زلت مأخوذاً حتى اليوم بصوت العود. لقد عزف الشريف محي الدين ببراعة شديدة". وقد ورد في إعلان حفلة نُشر في صحيفة "سون تيليغراف" بتاريخ 1 كانون الثاني/ يناير 1953: "يقيمُ الموسيقار حفلاً موسيقياً في راديو إسطنبول اليوم". كان على محي الدين حيدر أن يعزف كونشيرتو هايدن بمرافقة أوركسترا يقودها جمال رشيت ري على التشيلّو.

من أشاد أيضاً بهذه الموهبة العظيمة؟ مصطفى كمال أتاتورك أوّلاً، وعائلة الرئيس الأسبق روزفلت، وملوكٌ عرب، معظمُهم من أبناء عمومته، ومبدعون في الموسيقى الكلاسيكية تمتّعوا بمكانةٍ رفيعةٍ في تاريخِ الموسيقى، مثل: عازف البيانو جوزيف هوفمان (1876ــ 1957)، وعشّاق الموسيقى الذين أسَرَ قلوبَهم بألحان العود والتشيلّو. حظِيَ محي الدين حيدر بالتصفيق والترحيب الحارّ في جميع الأماكن التي عزف فيها موسيقاه. وبعد أن سمّاه الشاعر محمد عاكف آرصوي "عبقري الشرق الأوحد"، خلّد عاكف إعجابه هذا في إهدائه قصيدة "الظلال" (Gölgeler) إلى الشريف محي الدين في المجلّد السابع من ديوانه الشعري "صفحات".

قضى الشريف محي الدين حيدر سنواتِهِ الأخيرة في إسطنبول، المدينةِ التي وُلِدَ فيها وأحبَّها. وخَلّدَ اسمه في كتابِ الحياة في هذه المدينة الخلّابة ليتوفّى عام 1967. لا يزالُ تراثُه الموسيقيّ يمدُّنا بمصادرَ صوتيّةٍ فريدةٍ تمكّننا من استيعابِ الجغرافيا الثقافيّة، والتغييراتِ التي مرَّتْ بها خلالَ القرن الماضي.


* ترجمة عن الإنكليزية: عماد الأحمد


إرث مشترك

بيلين إشكتاش - القسم الثقافي

ولد بيلين إشكتاش Bilen Işıktaş عام 1980 في إسطنبول، وهو موسيقي وباحث تركي وأستاذ لآلة العود، ومؤلّف كتاب مرجعي عن محي الدين حيدر. لـ بيلين إشكتاش أصول عربية من جهة والده، ولعلّ هذا ما يفسر الحميمية في تقصّيه لسيرة وإرث محي الدين الذي يشكل قاسماً مشتركاً بين الأتراك والعرب، فأبرز موسيقي تركي لآلة العود في القرن العشرين هو ابن آخر شريف عربي لمكة... إرث يكاد يكون منسياً في دنيا العرب اليوم.

المساهمون