عادة ما تفصل دراسات السياسات العامة بين حقول التعليم والعمل والبيئة، وتتم معالجة كلّ حقل من هذه الحقول على حدة وبشكل معزول. ولكن بنظرة جوهرية إلى هذه المجالات نجد أنها مترابطة جداً، وتؤثّر ببعضها بعضاً، من خلال مؤسسات الدولة ككل، وبالتالي فإنّ الشروع في إصلاح أي منها سنسحب على الآخر، وهذا ما يشتغل عليه الكتاب الصادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بعنوان "صنع السياسات العامة في دول الخليج العربية: الواقع والتحديات" (372 صفحة) والذي وقّعته مجموعة من المؤلّفين، وحرّره مروان قبلان.
يضم الكتاب عشرة فصول تعالج جملة قضايا متعلّقة بطرائق الحكم والإدارة في دول الخليج العربية والسياسات العامة المتّصلة بها، وذلك انطلاقًا من تنامي اهتمام دول المنطقة، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بتطوير البُنى التحتية، والمؤسسات التعليمية، والمرافق الصحية، وتحديث التشريعات، والقوانين المتصلة بالاستثمار، خصوصًا في القطاع العام.
يتناول الكتاب، عبر منهجٍ عابر للتخصّصات، قضايا وجوانب سياسية تتعلّق بالتعليم والاقتصاد والبيئة والتنمية، ويُفرد أيضًا مساحة بحثية لمعالجة دور المجتمع المدني في صنع السياسات العامة.
يتطرّق الكتاب إلى واقع الجامعات في الدول الخليجية المختنقة بأزماتها كما أنّها لم تستطع قطّ التأثير في مجتمعاتها، بل خضعت لقانونية إنتاج الوضع القائم. ولذا، فإن كثيرًا من هذه الجامعات تأثر بالوضع القائم، ولم تتمكن في الكثير من الأحيان من التأثير فيه. هذه الجامعات مطالبة اليوم بأن تُحدث نوعًا من التغيير في ذاتها وإصلاح الفساد الذي ينخر عظامها.
تفيد الدراسات المستقبلية أن الجامعات التقليدية لن يكون لها وجود أو حضور في معركة المستقبل، وفي زمن الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها؛ فالجامعات تتغيّر من حيث الشكل والمضمون والبنية والوظيفة، وهناك أشكال جديدة للجامعات المستقبلية تختلف جوهريًا عن صيغة الجامعات التقليدية وأدوارها ووظائفها.
وينبّه الكتاب إلى أنه قد حان الوقت لترسيخ الحريات الأكاديمية التي تمثّل الروح الحقيقة لأيّ مؤسسة أكاديمية، وتحويل هذه الجامعات إلى مؤسسات بحثية معنية بالإنتاج العِلمي أوّلًا وأخيرًا، وكذلك تحويلها من مدارس كُبرى تعليمية إلى مؤسسات عِلمية فاعلة منتجة للعلم والمعرفة.
الجامعات التقليدية لن يكون لها وجود في زمن الثورة الصناعية الرابعة
وبالانتقال إلى موضوعة أُخرى يتضمّنها الكتاب وهي سياسات العمل، حيث تُعَدّ عملية صياغة السياسات الاجتماعية عمومًا، وسياسات العمل خصوصًا، معقّدة في سياق دول الخليج، ويعود ذلك إلى حقيقة أن هناك تحدّيات هيكلية دائمة، إضافة إلى التحدّيات المعاصرة، التي تلجم هامش تغيير السياسات في الدولة. وتشمل التحديات الدائمة نموذج الدولة الريعية الذي استند إلى مفهوم إعادة توزيع عوائد الهيدروكربونات (النفط والغاز). وقد أدى تقلب أسعار النفط العالمية، منذ منتصف عام 2014، إلى إخضاع استدامة هذا النموذج لفحص نقدي. ولا بد من أن تراعي استجابة السياسات الحكومية تصوّرَ المواطنين للامتيازات الممنوحة عقودًا من الزمن باعتبارها حقوقًا طبيعية تسري مدى الحياة، في حين يجري استبعاد الوافدين عادةً من الاستفادة من تلك الأحكام.
وقد أدّت التحديات السياسية والأمنية الحالية إلى تشديد القيود المفروضة على عملية صنع السياسات الاجتماعية في دول الخليج. وساهمت الحرب في اليمن، إضافة إلى الأزمة الخليجية في عام 2017، في تعزيز سباق التسلّح في الخليج إلى حدّ بعيد.
جرى تحديد التغيّرات التي طرأت مؤخّرًا على سياسات العمل في الخليج، مع التركيز على تحديد اتجاهات الإدماج والإقصاء الاجتماعيَّين ضمن هذه التحوّلات التي طرأت على السياسات. ومن خلال اعتماد أسلوب الاستعراض الواقعي، صِيغ منظور مقارن بين قطر والمملكة العربية السعودية، حيث كان اتجاه الاندماج واضحًا لدى بلورة سياسات العمل في قطر، في حين كان الإقصاء هو الحال في السعودية.
كان اتجاه الاندماج واضحًا لدى بلورة سياسات العمل في قطر
في المقابل، يبرز دليل على الإقصاء الاجتماعي في السعودية من خلال بعض التحوّلات، مثل إدخال نظام ضريبي جديد على عائلات الوافدين، ونظام ضرائب جديد على القطاع الخاص في حال جرى توظيف وافدين، إضافة إلى ترحيل واسع للوافدين، وغيرها من السياسات الأُخرى. وتعرّضت تلك التحوّلات، بخاصة تلك المتعلّقة بالضرائب الشاملة على الوافدين، لموجة انتقادات؛ لأنها رأت أنّ الحكومة السعودية تبدو كأنها لا تسعى لتعزيز الإيرادات بسبب انخفاض أسعار النفط فحسب، بل تطالب الوافدين أيضًا بتغطية تكلفة الإنفاق المتزايد في المجال العسكري.
تتسم البيئة السياسية للعدالة الاجتماعية ونظام التدرّج الطبقي الاجتماعي بالتعقيد في المجتمع الخليجي. وبناءً على ذلك، يشار إلى أن النتائج التي جرى تسليط الأضواء عليها والمتعلّقة باتجاه الإدماج الاجتماعي في قطر واتجاه الإقصاء في السعودية، تستند إلى الاتجاهات الرئيسة المتكرّرة في التحوّلات التي طرأت على السياسات في كلا البلدين.
كذلك يعالج الكتاب مسألة سياسات البيئة والتغيّر المناخي، باعتبار اقتصادات دول الخليج متمحورة حول الطاقة الأحفورية والمخاطر المناخية فيها كبيرة، فقد يكون من المفيد زيادة التأثير المتبادل بين المساهمات الوطنية والخطط التنموية البعيدة المدى.
في الوقت نفسه، تضع بعض الخطط التنموية الأولوية لإجراءات لا تخدم في المقام الأوّل سياسات مكافحة تغيّر المناخ، سواء لأغراض التخفيف من آثار التغيّر المناخي أو التكيّف معه. ومن الأفضل المضي في التدابير العملية، بعيدًا عن الحملات التسويقية لصورتها التي قد تكون منفصلة عن الواقع، وتعزيز التكامل بين المساهمات المحدَّدة وطنيًا وهذه الخطط. كما أن إدماج الأهداف المناخية على نحو أكثر شمولًا في صياغة الخطط التنموية والبرامج قد يعود بالنفع على سياسات التنويع الاقتصادي، واستدراك تجاهل أهداف التنمية المستدامة والبُعد الاجتماعي وحقوق الإنسان ضمن الالتزامات المناخية الدولية.
المضي في التدابير العملية لتخفيف التغير المناخي، بعيدًا عن الحملات التسويقية المنفصلة عن الواقع
إن التداخلات بين المساهمات المحدَّدة وطنيًا والرؤى التنموية تبقى محدودة، إذ لم يجرِ التطرق إلى العناصر المهمة الواردة في الخطط التنموية البعيدة المدى ضمن أولويات المناخ في المساهمات المحدَّدة وطنيًا؛ ما يدفع ذلك إلى الاعتقاد بأن المساهمات المناخية في سياسات التنمية الوطنية وبرامجها تظل ضعيفة. فضلًا عن أن السياسات القطاعية التي اختارت دول الخليج إبرازها في مساهماتها المحدَّدة وطنيًا لا تمثّل إلا مجموعة فرعية ضيقة إلى حدٍ ما من رؤاها التنموية، وهو ما يبدو أنه يتناقض مع الاتجاه القائل إن دول الخليج ستحاول استخدام المساهمات المناخية استراتيجيًا للترويج لها ولتحولاتها الاقتصادية والاجتماعية المحتمل مسايرتها لالتزاماتها المناخية، حيث تشير مساهماتها الوطنية إلى السياسات العامة، ومع ذلك، فإن الخطط المذكورة معدودة نسبيًا، وتعتمد على عدد محدود من أولويات التنمية.
قد يكون هناك العديد من الأسباب العملية لعدم إدراج معظم أهداف السياسات التنموية الوطنية الخاصة بدول الخليج في مساهماتها المحدَّدة وطنيًا، وذلك نظرًا إلى طبيعتها المختصرة والمتضمنة تفاصيل قليلة، وهي عمومًا أقل تعقيدًا من السياسات والخطط الوطنية لتغير المناخ. وبناءً عليه، لا توفر المساهمات المحدَّدة وطنيًا سوى لمحة عمّا قد تعتبره هذه الدول فرصًا وأولويات.
ونتيجة لذلك، قد تركز دول الخليج عن قصد على أولويات مساهماتها المناخية في القطاعات التي تعتقد أنها تشدّ انتباه الرأي العام البيئي الدولي من جهة (الطاقات المتجددة)، أو تلك التي تسترعي انتباه الممولين الدوليين، أو التي تعتمد على نقل التكنولوجيا لتسهيل تنفيذ التزاماتها.