هناك مصطلحٌ شاع منذ عقدٍ تقريباً، في عالَم الصورة من أعمال درامية وسينمائية، هو "الأعمال المُشترَكة". ولا يُحيل هذا المُصطلح في جوهره إلّا إلى عامل إنتاجي بالمعنى السطحي، كأن تشترك مجموعة ممثّلين عرب مختلفي الجنسيات في عمل تلفزيوني واحد. لكنّ هذه الأعمال، في أغلبيتها، تأتي كتلفيقات بصرية للتغطية على نصوص ومضامين ركيكة. على العكس من هذا، وبمستوىً جادٍّ في التعامل مع "المُشترَك" بما هو قضية إنسانية عادلة، يُمكن النظر إلى فيلم "السدّ" (2022) الذي وقّعه المخرج والفنّان البصري اللبناني علي شرّي (1976)، واشترك في بطولته كلٌّ من: ماهر الخير، وسانتينو أغوير دينغ، وأبو القاسم سرّ الختم، وآخرين.
بدأ عرض الفيلم السينمائي (80 د)، الخميس الماضي، في صالتَي "فوكس سينما" و"ABC - الأشرفية"، ويستمرّ حتى بعد غدٍ الأربعاء. هذا وقد تلا العرضَ الأوّلَ حوارٌ مع صانع العمل، تناول فيه أبرز المضامين والمحطّات الإنتاجية التي اشتغل عليها، بخاصّة أنّه عمله السينمائي الطويل الأوّل، إذ سبق أن أخرج أفلاماً قصيرة، منها: "القلق" و"الحفّار" (عُرِض في "متحف سرسق" 18 آذار/ مارس الجاري)، إلى جانب اشتغالاته الأساسية في حقل الفيديو آرت.
يتتبّع حياة شابّ من مدينة بعيدة عن تظاهرات العاصمة
يروي الفيلم قصّة ماهر، وهو شابٌّ يعيش قرب سدّ مرَوي شمالَي السودان، ويعمل في مصنع للطُّوْب الذي يتشكّل بفعل طمي نهر النيل، ثم تأتي الثورة على نظام عمر البشير، أواخر 2018، لتخترقَ هذه الحياة بكامل روتينها العدميّ بالنسبة إلى شاب عاديّ يعيش في مدينة طرَفية، وبعيدة عن العاصمة الخرطوم المُشتعِلة بالتظاهرات والاحتجاجات المندّدة بحُكم العسكر لأكثر من ثلاثين عاماً.
وعلى وقع "حرية، سلام، عدالة، الثورة خيار الشعب"، الشعار الأعلى الذي رفعه المتظاهرون، تبدأ شخصية ماهر (والممثّلُ في الحقيقة عامل بِناء وهذا أوّل دور تمثيلي له) بالتطوّر، أو لنقُل "بدأ وعيُه يتشكّل"، حسب العبارة الشهيرة. عند هذا الحدّ، يضع المُخرج شيئاً من خلفيّته التشكيلية في القصّة، ليبدو معها ماهر البنّاء، وهو يعمّر بناءً لا يلبث أن يتحطّم؛ في رمزية تدلّ على أيّ المصائر تنتظر وطناً استباحه العسكر، وكأنّ الممثّل/ البنّاء يستلف من المُخرج/ الفنّان البصري مجهوده ورؤيته الفنّية، فيبدو بعد هذا أنّ الاستبداد بقدر ما يُهمّش الفنون، عنده قابلية موازية لتدمير الحياة والأشغال حتى في بُعدها الوظيفي المُباشر.
في الفيلم انحيازٌ واضح للصورة والموسيقى على حساب الحوار، ورغم أنّ ما يطرحه هو مقاربة للحظة سياسية فارقة في تاريخ البلاد - ومَنْ يتابعِ الشأن السوداني يُدركْ كم كانت تعجّ الشوارع عشية الثورة بالأفكار، وكم ذهبت الحشود بعيداً لإثبات مقولتها سواء من خلال التجمّعات أو الأحزاب - فإنّ الفيلم ليس مُرافعة لتوضيح تلك الانقسامات، بقدر ما يُفسح المجال لفيضٍ من الإشارات البصرية اللمّاحة، مثل اللافتات والشعارات المكتوبة على الجُدران، لأن تقول كلمتها بعيداً عن تولّي مهمّة حشو رأس المُتلقّي بالخطابات.
بالعودة إلى شخصية ماهر وعُزلتها، أو بالأحرى عزلتها المفروضة عليها دون أن تكون قادرة على وعي مسبّباتها، هناك مَلمحٌ نفساني جَليّ تلعبُ فيه الطبيعة دوراً كبيراً، فعندما تقع "المُعجزة" ويبدأ البِناء بالحديث إلى صانعه ماهر، يمكن لنا أن نجد لهذا مُبرّرات، كأن نرجعه إلى شدّة اتحاد ماهر ذاته بعناصر الطبيعة، وبالتالي هو يتحدّث مع امتدادٍ له، وليس مع جسمٍ غريب صنعه ثمّ انفلتَ من بين يديه. أيضاً يمكن الاستعانة بقراءةٍ أُخرى لا تخلو من طرافة؛ كأن نعلّل ذلك بأنّ الوضع الاقتصادي والسياسي في بلداننا يدفع الناس بالضرورة لأن يتكلّموا مع الجمادات.
قبل عشرين عاماً، قدّم المخرج السوري عمر أميرالاي فيلمه المرجعي "طوفان في بلاد البعث" (2003)، والذي أدانَ فيه السياسات البعثية التي صوّرت سدّ الفرات "مُنجزاً" خارقاً للعادة؛ ولكنْ، عن أيّ طوفان كان يتكلّم أميرالاي؟ ذاك الذي جلبه سدّ الفرات على قرية الماشي في ريف مدينة هامشية هي الرقّة شرقَي البلاد، أم عن طوفانٍ آخر مستقبليّ يتقدّم فيه الهامش بحشوده؟ لا شكّ أنّ في "سدّ" علي شرّي الكثير من تلك المرارة الواقعية، والرؤية الجدلية التي لا تنظُر إلى الكوارث القائمة، جمعيةً كانت أم شخصية، بأنّها فِعلٌ قد مضى دون تَبِعات، بل تُرجِع كلّ ذلك إلى سياسة وسُلطة في المقام الأول. وفي "السدّ"، ظلّ البطل يُعاني من قرحة جِلدية، ليست شيئاً عابراً ولا خاصاً، إنّها أجساد العاملين على العموم، وقد تفتّتت وأودَت بها القُرَح السُّلطوية.
عادةً ما يبدو توصيف "شظف العيش" ضرباً من المبالغات نادرة الحدوث، ولكنّه في فيلم "السدّ" يجدُ تمثيله الحقيقي، إنّه تكثيفٌ لحياة سودانية قاسية محفوفة بالتعب وانسداد الأفق، واختصارٌ لمعضلة الحواضر الهامشية، التي تعاني أزمة مركّبة أمام مراكز وعواصم يُترَك لها حسْمُ القرارات السياسية المصيرية.