"الزمن الحسّي" لجورجو فاستا: عن الألم وقتل اللغة

29 مايو 2023
جورجو فاستا في فوريت بفرنسا، نيسان/ إبريل 2011 (Getty)
+ الخط -

مقذوفين إلى عالمٍ محتدم لا مكان لهم فيه، يلجأ ثلاثة فتيان إيطاليّين، أبطال "الزمن الحسّي" للكاتب الإيطالي جورجو فاستا (1970)، إلى التمترس بالعنف الأيديولوجي الذي يجرف إيطاليا في سبعينيات القرن العشرين، أو ما اصطُلح على تسميتها بـ"سنوات الرّصاص".

يعيش نيمبو وسكارميليا وبوكّا، أو بأسمائهم الحركيّة (طيران وشعاع وإكليل)، في عالم متهالك ومتآكل، محتضر وباعث على اليأس. على التلفزيون، يتحوّل الواقع من براءة الأسود والأبيض إلى ألوان الدم المسفوك في الشوارع.؛ خليطٌ من ثقافة استهلاكية سطحيّة وزمنٍ سياسي يغلي. في نشرات الأخبار اختطاف "الدو مورو"، وقتْله لاحقاً على يد "الألوية الحمراء".

في السبعينيات، كانت إيطاليا تتنازعها غريزتان ثقافيّتان: غريزة استهلاكية ستتوحّش وتنفجر في بداية الثمانينيات؛ وأُخرى أيديولوجيّة تقاوم وتجنح في بعض تعبيراتها إلى التطرّف. بيير باولو بازوليني، الكاتب والشاعر والسينمائي، النقدي جدّاً، كان يكتب بغضب عن عملية القولبة الثقافية التي يعمل النظام الرأسمالي على تكريسها من دون كلل.

اللغة سلاح ذو حدَّين، تجرح باتجاهين؛ الداخل والخارج 

يُقرّر الفتيان الثلاثة المستفَزّون من إيطاليا الغارقة في تبلّدها وثقافتها الاستهلاكية، المسحورون بالفعل العنيف لـ"الألوية الحمراء" وبلغتهم، إعلان حرب سرّية صغيرة ومتصاعدة على المجتمع المحلّي المتشبّث بريفيّته وانغلاقه ونفاقه، ابتداءً من المدرسة باعتبارها مؤسَّسة قامعة ومتورّطة حتى النخاع في تدجين الجيل الجديد وترهيبه وتأديبه.

يُفاقم العنف السياسي وضحاياه الكثيرون من إحساس العزلة والهامشيّة في حياة المراهقين الباليرمتانيين، ويصبح الموت العنيف طريقة متطرّفة ومشوَّهة لإنتاج الحياة والإحساس بها، وللانتصار المضطرِب على الخواء. ينجرفون سريعاً إلى حلِّ ذُهاني: الاستقالة من الواقع والاستغناء عن المواضيع العلائقية، وتفتيت اللغة وقتلها. 

غلاف الكتاب

اللغة سلاحهم ودرعهم في مواجهة التجارب النفسية الداخلية، وفي مواجهة الواقع الخارجي العنيف والكئيب. اللغة سلاحهم ودرعهم في مواجهة أشواق الجسد ومخاوفه. اللغة سلاحهم ودرعهم في مواجهة يأسهم وألمهم.

إلّا أنّ اللغة سلاح ذو حدَّين. تجرح باتجاهين؛ باتجاه الخارج وباتجاه الداخل، كما أنّ اللغة لا تكفي، ولا يمكن أن تَستبدل الحياةَ نفسها. بل قد تصبح اللغة سجّاناً ووحشاً يفترس إنسانيتك المذعورة، خاصّةً إذا كنت تحاول أن تخرج إلى العالَم لأوّل مرّة.

هي روايةٌ قاسية وناعمة تتحدّث عن النضج والألم؛ لا نضجَ من دون ألم، وأيّ محاولة لتجنّب الألم من شأنها أن تُحدِث دماراً في الداخل وفي الخارج. رواية تُقرأ بالأنف وبحواسّ عديدة. فاستا يكتب بلغة دقيقة وباردة تشريحية، كتابة حسيّة تبدو محايدة إلّا أنّها تنفذ إلى الأعماق وتُجمّد الدم أحياناً، وتتدفّق أمواجاً من العذوبة في القلب وفي الروح أحياناً أُخرى.

لا يمكن قراءة هذه الرواية، التي صدرت بالإيطالية عام 2008 وترجمت إلى العربية عام 2020 من دون أن نفكّر في الاحتلال الذي يستشرس ويتوحّش في فلسطين، وفي الفاشية التي تصعد واثقةً إلى الحكم في غير مكان من العالم، وفي عنفها الرمزي والفعليّ الذي يجتاح الشوارع والبيوت واللغة.


* شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون