الردود على "امرأتنا" للطاهر الحداد: ضرورة نفض الغبار عن مدوّنة

02 أكتوبر 2021
امرأتان في شارع بسوسة في تونس، نيسان/ أبريل 1988 (Getty)
+ الخط -

نال كتابُ الطّاهر الحدّاد (1899ـ1935)، "امرأتُنا في الشّريعة والمجتمع"، (1930)، شهرةً كبيرة بحُكم ما تضمّنه من المواقف الجريئة حول تحرير المرأة والمناداة باحتذاء النموذج الغربي. إلّا أنّ الرّدود التي كُتبت لمناقشة آرائِه، ورغم كثرَتها الكثيرة، لم تلقَ الصّدى ذاتَه ولا الشهرة نفسَها، بل إنّ بعضَها ضاع بمجرّد ظهوره. 

وعلاوة على ذلك، لم تخضع هذه الردود لأيّ عملٍ تحليليّ - تأويلي، ينفي عنها طابع التفنيد الانفعاليّ أو الجدل الدّينيّ، ليضعها في إطار الصّراع الفكري بين النّخب المفكّرة والسلطة. إذ تتعلّق جذور هذه الردود بقضيّة الهُويّة والعلاقة بين الحاضر والماضي وبجوهر تَصوّر مكانة المرأة في المجتمع ودورها فيه، بعد رسم علاقة الجنسَيْن ببعضهما وتحديد آثار المرجعيّة الدينيّة في صنع التحوّلات التاريخيّة والاجتماعيّة.

ولذلك يبدو من الضروري اليوم العودة إلى هذا التراث الضّخم من الرّدود على فِكر الطاهر الحدّاد، التي هاجَمَته بعنفٍ مفهومٍ في زمنه، ولكنه اليوم يحتاج إلى إعادة تأويل، وذلك بعد إحصائه وتَبويبه حسب مَرجعيّات تلك الرّدود ومناهج بنائها والبراهين المُستعملة فيه، وربّما جمعها في مجلّدٍ واحدٍ، يشمل ما صيغ حينها من كُتبٍ ومقالاتٍ صحفيّة، قبل إنجاز قراءة شاملة لها.

تشكّل الردود على كتابه مدوّنة ثرية لا بدّ من جمعها

ويجدر التذكير، قبل ذلك، بأنَّ كتاب الحدّاد: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، أثار زوبعةً كبرى بسبب جرأة الآراء التي عرضها، ودعوته الصريحة إلى تنسيب العديد من الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالمرأة، كواجب الطّاعة والطّلاق اللفظي والسنّ الأدنى للزواج وتعدّد الزيجات، وطبعاً خلع الحجاب، مُتَّبِعاً في ذلك نظاماً استِدلاليّاً، يزاوج فيه بين الحُجج الفقهيّة والأدلة الواقعيّة التي استقاها من ملاحظة ما يجري في المجتمع التونسي آنذاك. ولذلك، انبرى رجال الدين والفكر، من تونس وغيرها من البلدان، كمِصر وسورية، لتَفنيد آرائه، ولا سيما ما اتّصل منها بالقِسم التشريعيّ.

ومن هذه الردود كتاب "اللُّباب في إثبات الحجاب" للشّيخ محمد المدني (1888-1959)، وكتاب "الحِداد على امرَأة الحَدّاد، أو رَدُّ الخَطأ والكُفر والبدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1931)، للشيخ محمد صالح مراد (1881-1979) وكتاب "سيفُ الحقّ على مَن لا يَرى الحقّ" لعمر بن إبراهيم البري المَدني، (1864ـ1935)، ومقالات الطّاهر صفر الصادرة في جريدة "الزمان"، وقد ركّزَ فيها على نقد القسم الاجتماعيّ، ومقالات الشيخ راجح إبراهيم في جريدة "النّديم"، دون أن ننسى شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور وصديقه محمد الخضر حسين وغيرهما كثير، وهو ما يشكّل بحقّ مُدوّنة ثريّة، لكنها مهجورة مُشتّتة، لا بدّ من الاجتهاد في جَمعها قبل أن يطويها النّسيان.

تَتَموقع جلُّ هذه الردود على الأرضيّة الفقهية وتستند إلى سلسلة من الحُجج الدينيّة التي تدحض ما ذهب إليه الحدّاد من "اجتهادات فقهيّة" حول الطلاق وتعدُّد الزواج ومفهوم القِوامة وجواز أداء المرأة وظائف القَضاء والإشهاد من عَدَمه، مع أنه اعتمد فيها على فَتاوى مُعاصريه من علماء "الزيتونة"، كابن عاشور. وناقشت هذه الرّدود توظيف الحدّاد لمفاهيمَ ومبادئ نابعة من علم أصول الفقه، تفنّن في تَطويعها، ويتعلق معظمُها بدلالات النّصوص الظنّيّة والقطعيّة وشروط تغيير الأحكام وارتباطها بالمصالح والواقع والأهليّة للاجتهاد وثبات القواعد الشرعية أو تحوّلها حسب الظروف والأزمان، وغيرها من قواعد النظر الفقهيّ، بما أنه أراد "التشريع" لها أصوليًّا.

من جهة ثانية، تضمّنت هذه الكُتب والمقالات عدداً لافتاً من الشّتائم ذات الطابع "الفكريّ"، مثل اتهام الرّجل بـ"الانسلاخ والإلحاد والتّفرنس والعناد والتبعيّة للغَرب..."، وهي توصيفاتٌ حاملةٌ لدَلالات اجتماعيّة وثقافيّة يجدر التعمق في بحث آثارها ومغازيها، دون التوقّف عند ظواهرها. ففي العمق، تدلّ هذه الرّدود، رغم حِدّة صُور التعبير عنها، على معارضة التّغريب ورفض النّموذج الفرنسيّ، حفاظاً على مقوّمات الهُويّة من الطّمس، وهي الدّين الإسلامي واللغة العربيّة.

ذلك أنّ التّحوّلات العميقة التي نادى بها الحدّاد، والتي تتعلق بوضع المرأة في المجتمع وترتيب العلاقات بينها وبين الرجل، تمسّ أساس النّموذج الاجتماعيّ وجذورَه، بل وشرعيته ككلّ. كذلك تنادي بتثوير الرّؤية للمرأة، مروراً من نظام قيمٍ تقليديّة، قائمة على الهيمنة الذكوريّة وتقسيم الفضاء إلى خاص وعامّ وقصْر هذا الأخير على الرجال، إلى نظامٍ يتساوى فيه الجنسان كليّاً في احتلال ذلك الفضاء، وهو ما كان سابقاً لأوانه. كذلك يقوم على توزيعٍ ما للأدوار الاجتماعية بين النساء والرجال والأطفال وفق ترتيب خاصٍّ للعلاقات المترتبة بين هذه الأطراف الثلاثة. ولذلك تُفهم حدّة هذه الردود، وحتى شرعيّتُها، بالاستعجال التاريخي الذي ارتَكبه الحداد، فكأنما بَشّر بمثال مجتمعيّ لم يَحنْ أوانُه، ولم تَتوافر له الظّروف الموضوعيّة من أنسجة ثقافيّة وأطر سياسيّة وقانونيّة.

يوافقه منتقدوه على إصلاح وضع المرأة ويخالفونه بالبرهنة

لكن هل يجعل هذا "الاستعجال" من الحدّاد صاحبَ مشروع رؤيوي؟ الغالب أنّ مُنتقديه يشاطرونه الرّؤية المقاصديّة للإسلام وضرورة إصلاح وضعيّة المرأة، بما أنهم هم أنفسهم من رُوّاد هذا الإصلاح، ولكنّ الخلاف كان في الشكل التعبيري وفي نظام البَرهنة، ولا سيما في القسم التشريعيّ حيث وُظّفَت نصوص الدّين لغايات اعتُبرت سياسيّة (الدفاع عن النموذج الفرنسيّ الذي يباطن الحركة الاستعماريّة ويعضدها)، وهو ما أطلق ألسنتَهم.

الآن، بعد مرور ما يناهز القرن على هذا الجَدل، كيف يمكن قراءة هذه المُدوّنة؟ من الأكيد أنّ تطوّر الزمن، الذي لم يكن في صالِح الحدّاد، لأنّه لم يُراع إيقاعَ حَركته، جعل معظمَ السّجالات بلا معنىً، وعناصرَ الخطاب غير قائمةٍ، بسبب المكاسب الكبيرة التي حققتها المرأة التونسية وزوال الظواهر التي انتقدها الحداد مثل الطلاق اللفظي وتعدّد الزيجات وإلزام المرأة المكث في البيت ومؤسسة "دار جواد"... 

وفي الوقت ذاته، عاد الحِجاب الذي كان حصان طروادة في هذا الجدل، وبقوة أشدّ، دليلاً على ترسّخه رمزاً للهويّة والانتماء وليس فقط شعيرة دينيّة، وطريقة في علاج مكانة الجسد والفروق الجندرية. كذلك فقد "المثال الأروباوي"، الذي نادى الحدّاد باتباعه، بَريقَه وتفكّكَ الانبهار به، بعدما تكشفت جرائم الاحتلال وظهرت نتائجه على المستوى العائلي وتفاقم الأزمات الاجتماعيّة والتربوية في الغرب نفسه، حتى صار المفكرون يفصلون فيه بين البعد القيمي والجانب التقني. 

ولم يَعد مَن يدعو إلى الاتساء به إلا أقلية من المتغرّبين، لا قاعدةَ شعبيّة لها. وهذا ما يمكن أن نفهم من خلاله تطور النخب في تونس وإمكان تعايش المتناقضات الفكرية داخل المجتمع الواحد بل داخل الفكر الواحد، وآية ذلك أنّ بشيرة بن مراد (1913-1993)، هي التي حَملت لواء الحركة النسائيّة في تونس، بعد أن كَشفت وجهَها وقادت المظاهرات... بتشجيعٍ من والدها الشيخ محمد الصالح بن مراد، كاتب "الحِداد" وأعنف مهاجِمي الحَدّاد.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون