الدخول الأدبي.. مواسم مُريبة

11 سبتمبر 2023
من مكتبة في حيّ موفيتار بباريس، تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 (Getty)
+ الخط -

تشهد فرنسا تقليدًا ثقافيًّا سنويًّا تُطلق عليه اسم "العودة الأدبيّة"، والتي تُوافق صدور كمٍّ كبير من الأعمال التي تَظهر دفعةً واحدةً خلال الأسبوعيْن الأوّل والثّاني من أيلول/ سبتمبر، يتراوح عددها بين أربعمئة وستمئة كتاب، حسب تقديرات السنوات القليلة الماضية. وتتوزّع هذه الكتب ما بين رواياتٍ ومسرحيّاتٍ ومجموعات شعرية ومحاولات تأمّليّة وسير ذاتيّة، وغيرها من أجناس الأدب والفكر.

تتمثّل هذه الظاهرة في التواطؤ الضمنيّ بين دُور النشر والمؤلّفين على إصدار أعمالهم في هذه الفترة الوجيزة ونَشرها مرّةً واحدةً، تزامنًا مع العودة المدرسيّة والجامعيّة وإعادة تحرّك الدورة الاقتصاديّة إثر شهر آب/ أغسطس؛ فترة الإجازة "المقدَّسة" التي سنّتها حكومات اليسار، ثم بالتزامن مع انطلاق مباريات اختيار القوائم الطويلة والقصيرة لأحسن الإصدارات عبر لجان افتراضيّة وهجينة تتألّف من قرّاء ونقّاد ومَكتبِيّين.

وأوّل إشكال يثيره هذا الحدث الأدبيّ هو كيفيّة ترجمة العبارة الدالة عليه نحو العربية؛ وهي Rentrée littéraire، التي لا يُفيد مقابِلاها "عودة" و"رجوع" معنًى واضحًا في ذهن المتلقّي، فضلًا عن الإحالة إلى هذه الظاهرة المهمّة التي تُحرّك المشهد الثقافيّ الفرنسيّ برمّته بعد عطلة الصيف من كلّ سنة. ولعلّه من الأنسب ترجمة العبارة بـ"الموسم الأدبيّ"، لما في كلمة "مَوْسِم" من إيماء إلى زمن الحصاد الذي يعود بانتظام دَوري ومعه طقوسُه ومَحصولاته. وهي هنا، بطريق الاستعارة، النتاج العقليّ للكُتّاب.

يتدخّل الضغط الخفيّ بشكل باطنيّ في صياغة العَمَل بِأسره

إلا أنّ هذا الحدث الثقافيّ يرتبط وثيق الارتباط بالدولاب التجاريّ لدُور النشر والمَكتبات التي تعمل، في هذه الفترة، مثل ماكينة ضخمة من أجل إنتاج أكبر كمٍّ من الإصدارات، حتى وإن لم تراعِ مقاييس الجودة والعمق، بعد أن تدخل هذه الدُّور في حركة منافسة مَحمومة بغرض الربح السريع والمراهنة على البيع الوفير في ما يشبه الهستيريا من أجل بلوغ لقب "الأكثر مبيعًا" وسِحر مقابله الإنكليزي Best-Seller. وآية ذلك أنّه لا يصمد، بعد كلّ مَوسم، سوى عدد قليل من الكتب التي تُضخِّم قيمتَها نفسُ الآلة الإشهاريّة، لكن سرعان ما تنطفئ جذوتها بعد مرور أسابيع قليلة. فالإبداع قَلَقٌ ومكابدة لا يمكن أن يرتبط بحسابات النشر، ولا بمواعيد نهائيّة لتسليم المخطوط، ولا بالاختيارات الأيديولوجيّة للمؤسَّسات التي تخلق ضربًا من الضغط غالبًا ما يتجلّى في نوعية الآثار الأدبية وقيمتها.

إذ تعمل هذه الضغوط، وجوهرها تجاريّ-ربحيّ، في لاوعي الكتّاب، فتصير بمثابة دافع خفيّ يتحكّم ليس فقط في حجم الرواية، وإنّما في بناء شخصيّاتها وإجراء الحوارات بينها واختيار الأحداث وتصوُّر الحبكة ومَدى تعقّدِها أو بَساطتها. وبعبارة موجزة، يتدخّل هذا الضغط بشكل باطنيّ في صياغة العَمَل بِأسره. وما كان ضغطًا لا يُنتج إلا قيدًا يضرّ بالبناء العام لنصوص الأدب، فيمسّ كلّ عناصر البِنية الفنيّة ويطاول بالتالي مدار الدلالة فيها.

من جهة ثانية، تبدو هذه العودة بمثابة طقس دوريّ، لإضفاء معنًى متعالٍ يَخلقه الكتّاب وناشروهم لذواتهم، وهو ما يضعهم في شبه دوّامة مقدّسة تجبرهم على الانصياع إلى إكراهاتها الرمزيّة. ومثل سائر الشّعائر، تتشكّل فصول هذه العودة من ظهور وتمجيد وتشويق ودعوة وإشهار، فتصير "موسمًا" كبقية المواسم الدينيّة، له مأموراته ونواهيه، وعليه سَدَنَةٌ وكهّان.

تُجبر الآلة الدعائية القارئ على ألّا يقرأ إلّا ما تقترحه

وتبعًا لذلك، تضع هذه العودة القارئ أمام دوّامة الاختيارات، فَتجبره على ألّا يقرأ إلّا ما يُقدَّم له على أنّه "مفاجأة الموسم"، فلا يُترك له مجال الاختيار والتمييز والترجيح. فلجان القراءة الخاصّة بوسائل الإعلام هي مَن يَقرأ نيابةً عنه، وهي التي تفرض عليه نصوصًا تعتبرها جيّدة وتُقصي أخرى تراها رديئةً. وعلى القارئ أن يذعن إلى هذه الأحكام التي تعكس اختيارات اللجان وتوجّهاتها الفكريّة والذوقيّة. وطبعًا، هي لا تصوغ آراءَها بشكل صريح، وإنّما تعمل كـ"قوّة ناعمة"، تقترح بعض العناوين التي تؤكّد أنّها التجسيد الأمثل للأدبيّة في هذا الطور التاريخيّ، وتُبعد ما سواها.

ومن المحتوم أن يتشتّت القارئ أمام هذا الكمّ الهائل من الكتب، وأن يغرقَ في مئات الإصدارات دفعةً واحدة، في حين أنّ طاقاته على القراءة محدودة زمنيًّا وذهنيًّا، وهو ما يسفر عن "تخمة" قد يضيع في غمرتها بعضُ الأعمال المتميّزة. في حين تسهُل المتابعة، سواءً أكانت للمتعة الفرديّة أو للتحليل النقديّ، إذا كانت جاريةً على مدار السنة، مقسّمة على شهورها وفصولها. وعلى عكس ما تُوهم به هذه الدُّور، فإنّ بعض الكتب لا تَطيب إلّا بمرور الزّمن، فهو الذي يزيدها عتاقةً ويكشف عن معدنها النفيس، خلافًا لكتب الفقاعات التي لا قيمة لها إلّا في استجابتها لإملاءات اللحظة العابرة.

ولعلّ أمكر ما في القضيّة ارتباط هذا الموسم بوسائل الإعلام وأقسامها الثقافيّة وبالجهات المموّلة لها، وحتى بالأنظمة السياسيّة المتحكّمة فيها. فلا أحد بمعزل عن التأثير المباشر لإكراهات مراكز الضغط واللوبيات. كما أنه من السذاجة بمكان الاعتقاد أنّ عمليات الترويج لبعض الأعمال الصادرة أثناء الموسم وإقصاء غيرها، أو حتى مجرّد الصّمت عنها، لا تخضع لهذه الإملاءات ولا تدخل ضمن لعبة التأثيرات السياسيّة والتوجيهات الإعلاميّة. فلم يعُد أحدٌ يغترّ بأسطورة "الحياد" التي تُضفى على الإعلام الغربيّ.

"تخمة" قد تضيع في غمرتها أعمال متميّزة

ولا نغفل هنا ارتباط هذا الحدث بالتحضير للجوائز الأدبيّة، وهي الأُخرى مسارٌ شديد الالتباس، تهيمن عليه نفس الوجوه وتخضع لقيم المنظّمين والمموّلين. ففي هذه الفترة، تدخل لجانُ المكتبات في صراع حول الأرقام، من أجل تفضيل الكتب الخمسة أو العشرة أو العشرين والخمسين الأُولى، في إذعان ساذج لدكتاتوريّة "الرّتبة الأولى" و"القائمة القصيرة"، حتّى وإن كان منتهاها إلى المائة. وكأنّ الموسم الأدبيّ مجرد ذريعة إلى هذه الجوائز، وكلاهما "مأدبة" تنتظرها دُورُ النشر لتفوز بها قِلّة قليلة، في حين تذوب أعمال الآخرين في غياهب النّسيان ويظلّ أصحابُها مغمورين. وما آلَمَ أن يُطبَع كتابٌ دون أن يُقرَأ.

لا يُخفي الرأي النقديّ الذي اقترحناه هنا أهمّية هذه المواسم ولا ما قد تنطوي عليه من مفاجآت سارّة، لكنه "سرور" وسطَ زحمةٍ لا تتناسب مع التلقّي الجماليّ للأعمال الثقافيّة، ويتنافى مع "لذّة القراءة" التي نظّر لها الناقد الفرنسي رولان بارت. كما أنّه يقع فريسة للنزعة الاستهلاكيّة العابرة والربحيّة العاجلة التي من المفترض أن تقاومها إبداعيّة أيّ نصّ لا يرتهن بالمواسم ولا بتوقيت النشر، بل بالإنسان وجوهره القَلِق.

ومن المشروع أن نتساءل ختامًا عن مقابل هذه الظاهرة في العالم العربيّ. ولعلّنا نشهد في زمن معارض الكتب ما يشبهها، حيث تتناسل الأعمال كالفِطر وتُدخل المتابعين في نسقٍ جهنّمي لا يوفّر لا الكتّاب ولا القرّاء.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
 
المساهمون