يصعب الفصل بين العمل المسرحي والعمل الشعري عند الشاعر الغرناطي فيدريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936). لطالما قال هو نفسه: "إنَّ صلة الوصلِ بين الشعر والمسرح قويّة جدّاً". هذه الهُوية المشتركة بين هذين الجنسين الأدبيين يمكن أن نلاحظها في لغته؛ لأنّ لها بعداً شعريّاً قويّاً، على اعتبار أنّها لا تطمح في أن تكونَ مجرّد نسخةٍ عن اللغة اليومية؛ وفي رموزه، لأنّها تحتوي على قوة سحريّة تنتمي إلى عالم الأساطير؛ وأخيراً في موضوعاته، لأنَّ الموت، والجنس بكافة أحواله وهمومه، والحبّ، هي موضوعات جوهريّة وأساسيّة طبعت قصائده كذلك.
هذا المفهوم الخاصّ بالمسرح الذي تبنّاه لوركا، لم يقتضِ بالضرورة خلق مسرح نخبوي، فالمسرح، أوّلاً وأخيراً، يعالج قضايا تهمُّ الناس، بالإضافة إلى دوره في ممارسة وظيفة تعليمية للجمهور. وانطلاقاً من هذا الجمهور، سيبدأ لوركا في عام 1925 تأليف سلسلةٍ من الحوارات القصيرة التي تحمل طابعاً سريالياً، والنتيجة ستكون عملين مسرحيين حملا عنوان "الجمهور" (1930) و"هكذا ستمرُّ خمس سنوات" (1931)، وسيطلق لوركا على هذا المسرح اسم "مسرح الدراما المستحيلة"، في إشارة إلى عدم إمكانية تمثيله. مع ذلك عُرضت هاتان المسرحيتان أكثر من مرّة وتطلّب الأمر من أجل ذلك مسرحاً متغيّراً في المكان، مختلفاً عن المسرح التقليدي المُتعارف عليه.
اليوم، وعلى خشبة مسرح "نابيس إسبانيول" في مدريد وحتى الرابع عشر من حزيران/ يونيو المُقبل، يحاول المُخرج الإسباني ألفونسو ثورّو (1953)، تقديم رؤيته لمسرحية "الجمهور"، التي تُعتبر واحدةً من أكثر كلاسيكيات الحركة الطليعية التاريخية تعقيداً وعمقاً.
تماماً مثل عنوانها، بطلُ المسرحية الرئيسي هو الجمهورُ نفسُه
تماماً مثل عنوانها، بطلُ المسرحية الرئيسي هو الجمهورُ نفسُه. لوركا هنا لا يسهّل عمل أيّ مُخرج، إذ لا يقدّم أيّة تنازلات. حريّته الإبداعية تصلُ إلى أعلى المستويات. إنّها تفتحُ عالَماً تختلطُ فيه طائرات السرد المختلفة. شخصياتٌ يائسة تبحثُ عن الحبّ. حبٌّ نقيٌّ بلا حدود، بلا أقنعة. حبٌّ قد يكون ممكناً في مسرح تحت الرمال، هناك حيث يمكن اكتشاف حقيقة واحدة فحسب: حقيقة القبور. هناك حيث يمكننا الصراخ والبكاء على كلِّ ما تبقى لدينا ليكون حقيقياً وفريداً وحرّاً.
شخصية العمل الرئيسية مخرج مسرحيٌّ لا يتوقّف عن ارتداء الأقنعة لكي يخفي هُويته: تارةً يلبس قناع طفلة، تارة قناع راقصة، وتارةً أُخرى قناع بائعة هوى. أخيراً، وبعد شكوك وهمومٍ كثيرة، يقرّر أن يخلع القناع لكي يواجه مجتمعاً معادياً ورافضاً له.
تمكّن مخرج العمل من تحقيق رغبة المؤلّف الغرناطي: إحضار الحقيقة إلى المسرح عدّة مرات، بما في ذلك عواقبها وصعوباتها. مسرحية "الجمهور"، ضمن هذا المعنى، قصيدةٌ درامية تواجهنا كمشاهدين لأنفسنا، وقد تزعجنا نوعاً ما، لأنَّ لوركا يُجبرنا على أن ننظر إلى أنفسنا، من شرفة الهاوية، من دون خوف.