لا يمكن لأيِّ دارس أو قارئ للتاريخ الإسباني، مهما حاول، أن ينكر أو يلغي الأثر العميق الذي تركَه الماضي العربي، في الجوانب والميادين كافّة، على الثقافة واللغة، بدءاً من المفردات والألفاظ والمصطلحات والتراكيب اللغوية العربية التي تزخر بها الإسبانية، والتي تبلغ ما يقارب أربعة آلاف مصطلح، وانتهاءً بالشواهد والآثار العمرانية الرمزية والملامح العديدة، من دون أن ننسى فنّ الطبخ والمأكولات والمشروبات. وعلى الرغم من هذا الأثر الواضح في جوانب الحياة الثقافية كافّة، ثمّة نزعات واتجاهات مختلفة في إسبانيا تُنكر هذا الأثر العربي في صياغة التاريخ والهوية الإسبانيَّين.
اليوم، تغيّرَت سماتُ الثقافة وخصائصُها بسبب المؤثّرات والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وقد زادت وسائل الإعلام المرئية والسمعية، إضافة إلى الإنترنت، من وتيرة هذا التغيّر. وهذا ما جعل العلاقة بين الهوية والتفاعُل، بين الذات والآخر، تتعقّد وتتشابك. هنا تحديداً يأتي دور الثقافة واللغة بوصفهما الأداة الأسمى التي تعبِّر عنها؛ إذ لا يمكن العبور إلى ثقافة ثانية وهوية ثانية إلا بدءاً من ثقافة أُولى وهويةٍ أُولى، وليس هذا العبور محواً للذات، بل على العكس تماماً، هو اقتران وتجسُّد.
انطلاقاً من هذه البنية الثقافية واللغوية التي تخترق الحدود وتتجاوزها، أسّست مجموعة من أهمّ المستعربين والمختصين في إسبانيا "الجمعية الإسبانية لأساتذة اللغة العربية" (Sociedad Española de Docentes de Lengua Árabe)، والتي تُعرف بالأحرف اللاتينية الأُولى: "سيدلا" (SEDLA)؛ وهي مؤسَّسةً ثقافية ولغوية شاملة تجمع عدداً كبيراً من المعنيّين بمجال تدريس العربية ونشر ثقافتها في الجامعات ومدارس اللغات الحكومية والأكاديميات والمعاهد العامة والخاصة، والمدارس التابعة للمراكز الثقافية العربية المختلفة، إضافة إلى المساجد والجوامع الموجودة في إسبانيا.
تسعى إلى نشر الضادّ في إسبانيا وبلدان أميركا اللاتينية
وتهدف الجمعية إلى أن تكون فضاءً مشتركاً وجامعاً يضمّ مختلف الجهات والمجموعات والأفراد المعنيّين بنشر الثقافة العربية في إسبانيا، خلال تدريس لغتها وتوعية الإسبان بأهميتها في تكوين معالم هويتهم المعاصرة، انطلاقاً من اعتقاد الجمعية بضرورة تطوير الأواصر والروابط المشتركة التي تصل الثقافة الإسبانية المعاصرة بالهوية العربية الأندلسية، خصوصاً في ما يتعلّق بالتراث اللغوي والحضاري والثقافي.
يعرف القائمون على الجمعية أنّ واقع الضاد في إسبانيا غير مشجّع، وأنَّ التحديّات التي يتوجّب عليهم مواجهتها ليست سهلة، لا سيّما في وقت تشهد أغلب مقاطعات وأقاليم البلاد تراجعاً مستمرّاً في عدد المواطنين الإسبان الراغبين بتعلّم ودراسة العربية. ويعود ذلك، كما يرى أصحاب الجمعية، إلى أسباب متعدّدة قد تكون متّصلة بقلّة الجهات الرسمية والأهلية المحلّية التي تروّج للغة الضاد، إضافة إلى انعدام وجود هيئات وجمعيات تدافع عن اللغة والثقافة العربيّتين وتروّج لهما بشكل إيجابي. يُضاف إلى كلّ غياب خطاب رسمي يُعطي اللغة العربية مكانتها ويتحدّث عن مساهمتها الفعّالة في بناء العالَم المعاصر، والهوية الإسبانية بشكل خاصّ.
ويرى القائمون على الجمعية أنّ التحدي الأكبر الذي يواجههم هو إمكانية إيجاد آلية على مستوى إسبانيا، تؤهّلهم لتحديد المستوى اللغوي لطلّاب اللغة العربية في المراكز الحكومية وغير الحكومية، كما هو الحال مع لغات أوروبية كالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية التي تقوم مراكزها الثقافية والجهات المؤهّلة لها رسمياً، بإصدار شهادات ووثائق رسمية تُبرز المستوى اللغوي لحاملها، فيُعترَف بها في جميع أنحاء العالم. وهذا ما عجزت عنه حتى الآن المدارس والمعاهد والجامعات التي تدرَّس فيها اللغة العربية في إسبانيا.
من هنا، تؤكّد الجمعية، كما جاء في أهدافها ورؤيتها، على ضرورة العمل من أجل نشر صورة إيجابية عن الثقافة واللغة العربيّتين لدى الإسبان، وتأكيد جدوى دراسة العربية، التي سيكون لها أثرٌ إيجابي على الأصعدة كافّة، بدءاً من تعريف الإسبان إلى الخلفية الحضارية المكوّنة للثقافة الإسبانية الراهنة؛ بإطلاعهم على الروائع الأدبية والفنّية التي ألّفها العرب الأندلسيون طوال قرون مديدة، ودمجهم في أنشطة مهنية كثيرة تخوّل طلّاب الجامعات ومراكز التعليم بالانتساب إلى سوق العمل في العالم العربي، والاتصال بقطاعات اقتصادية لها علاقة بالخدمات الاجتماعية، سواء في إسبانيا أو العالم العربي، دون أن تغيب عن الرؤية البحوث السياسية والاجتماعية أو الدراسات الإسلامية في إسبانيا وبلدان الجوار.
قلّةٌ من الجهات الرسمية والأهلية تهتمّ بالعربية في إسبانيا
وفي هذا السياق نفسه، قال الأكاديمي والمستعرب الإسباني إغناسيو غوتيريث دي تيران، رئيس الجمعيّة، في حفل تقديمها الذي أُقيم مؤخراً في "البيت العربي" بمدريد، إنّ "الهدف الرئيس الذي تسعى الجمعية لتحقيقه هو اجتذاب أكبر عدد ممكن من الأساتذة والمدرّسين والطلّاب والباحثين، وكلّ من له صلة بالثقافة العربية في إسبانيا، وفي بلدان العالم العربي المرتبطة بالثقافة الإسبانية بصورة أو بأُخرى، لا سيّما في ظلّ عدم وجود هيئة تجمع المؤسّسات والأفراد المعنيّين باللغة العربية وثقافتها، الأمر الذي أعاق اتّخاذ موقف حاسم أمام المجتمع الإسباني والدوائر الحكومية والجامعية والثقافية بشأن ضرورة تدريس اللغة ونشر الثقافة العربية في إسبانيا".
ويعتبر القائمون على الجمعية أنّ العلاقة التي تجمع بين الثقافتين تتعدّى حدود المصلحة العِلمية المتبادلة؛ فهي علاقة عضويّة تمتدُّ على مدى قرون، حيث تُعتبر الضاد ذات أهمية استثنائية من النواحي الحضارية والتاريخية والعمرانية، لذلك فإنّ وجود مثل هذه الجمعية يُسهم بشكل كبير في توعية المواطنين الإسبان بضرورة الحفاظ على هذه العلاقة التاريخية وطابعها المصيري، آملين، في هذا الصدد، التعاون مع الجهات والمؤسّسات الثقافية العربية من أجل توسيع آفاق اللغة ونشرها في إسبانيا.
ويأمل مؤسّسو الجمعية وأعضاؤها أن تلعب الجهود المبذولة، في إطار تدريس الضاد ونشر الثقافة العربية، دوراً في مساندة المعنيّين بتدريسها في إسبانيا وبلدان أميركا اللاتينية. وفي ظلّ عدم توفّر مراكز تعليمية وتربويّة في أميركا اللاتينية مخصَّصة لذلك، تتطلّع الجمعية إلى إقامة علاقات مع الجهات والأشخاص، الذين يعملون بجهد مشهود له في القارة اللاتينية؛ من أجل خلق منابر لتلك الغاية.
بالنظر إلى واقع اللغة العربية في إسبانيا وبلدان أميركا اللاتينية، وفي ظل عدم توفُّر إستراتيجيات لتدريسها، يمكن لـ"الجمعية الإسبانية لأساتذة اللغة العربية" أنْ تكون نواة مستقبلية وأن تلعب دوراً بارزاً في هذا المجال، إذا أخذت على عاتقها مهمّةَ رسم إستراتيجية ناجعة وإعداد مناهج وآليات حديثة، وفق آخر التقنيات العصرية في مجال التعليم التكنولوجي والرقمي والافتراضي، وتطبيقها في مجالات مختلفة.