الجائحة وغزّة والرجل الأبيض

03 نوفمبر 2023
"غزة رمز العودة" من مسيرات العاصمة الأيرلندية دبلن (Getty)
+ الخط -

أهالي غزّة الذين يتعرّضون بشكل يومي ممنهَج لجرائم ضدّ البشرية، هُم في حقيقة الأمر يخوضون بدمائهم حربًا من أجل البشرية. كيف هذا؟

شيئًا فشيئًا، يعود الحديث عبر وسائل الإعلام عن توقّعات بموجة وباء عالمية جديدة قد تفوق خطورتها جائحة كورونا، ويجري تصوير الموضوع وكأنّه مسألة وقت فقط. ويبدو أنّ "التدريب" و"الترويض" و"التطبيع" الذي مورس على الناس خلال الجائحة الأُولى، هو السلاح الأثير الذي سيلجأ إليه "النظام العالمي" المأزوم كلّما شعر أنّ الناس بدأوا يشبّون عن الطوق ويفلتون من عقالهم.

مثل الدجاج في القِن: "بيتك بيتك إنت وإياه".. يُمنع الخروج.. يُمنع الاجتماع.. يُمنع التجمهر.. كلّه بإذن.. كلّه بتصريح. والأجهزة الأمنية التي تطارد المجرمين، وتقمع المسيرات والمتظاهرين، هي نفسها التي تراقب وتضبط وتعاقب المرضى والمخالفين. فهل هذا هو النمط الجديد للنظام العالمي في عصر "الثورة الخامسة" وخدمات "الجيل الخامس"؟

حروب ودمار، ثمّ حبس وترويض. حروب ودمار، ثم حبس وترويض.. وهكذا دواليك، وصولاً إلى تحقيق الأهداف التنموية المنشودة للألفية. وهذه فرصة لقراءة هذه الأهداف والتعرّف على "المؤشّرات" الكمّية القابلة للقياس التي تعتمدها للتنمية.

حروبٌ ودمار ثمّ حبسٌ وترويض... وهكذا دواليك

وطبعًا، كلّ هذا يجري في إطار من "السيطرة الرقمية" القسرية التي تتيح نظريًّا التحكّم "سايبرانيًّا" بكلّ شخص بشخصه، من الثمانية مليارات إنسان؛ سكّان الكرة الأرضية.

هناك "علماء" يَستخدمون حالياً نماذج ألعاب حرب الفيديو الجماعية، ونماذج رياضية مُحوسبة، من أجل محاكاة سيناريو انتشار وباء فتّاك، و"سرعة" و"طبيعة" الاستجابة المطلوبة لضمان احتوائه قبل فوات الأوان.

أحد سيناريوهات المحاكاة هذه أَطلق عليه أصحابه اسم "انتفاضة الزومبي" (لاحظ التسمية وإيحاءاتها). ومن النتائج التي خلص إليها "العلماء" الذين قاموا بهذه المحاكاة ضرورة "التفكير في القضايا الأخلاقية مثل حقوق الأفراد مقابل حقوق السكّان". بكلمات أخرى، سُلب الأفراد حقوقهم التي طالما تشدّقت بها وبشّرت بها "الحضارة الغربية" من أجل "الصالح العام".. حتى لو استدعى الأمر قتل هؤلاء المرضى/ الزومبي بالمعنى المجازي والحرفي لكلمة قتل من أجل خير البشرية وبقائها.

كم فيلمًا هوليووديًا جرى إنتاجه تقوم فكرته على ترسيخ نفس هذه "الثيمة" في الأذهان كضرب من "البرمجة الاستباقية"؟

يخوض أهالي غزّة بدمائهم حرباً لمستقبل الشعوب والبشرية

لعلّ أشهر فيلم في هذا السياق هو "حرب الزومبي العالمية" (World War Z)، والذي يتخلّل أحداثَه حلول البطل الهوليوودي (الرجل الأبيض) الذي سينقذ العالم (الممثّل براد بت) ضيفًا على "الموساد" الإسرائيلي الذي أقام منطقة آمنة في القدس، واللقطة المشهورة حين يظهر "جدار الفصل العنصري" وهو يحمي "الأخيار" من تدفّق "الزومبي" الأشرار وهم يحاولون تسلّق الجدار.

وهناك أيضًا طريقة التمويه والتحايل على هجمات "الزومبي" التي اكتشفها البطل، وقادت إلى صناعة العلاج الواقي الذي سينقذ البشرية: لقاح جديد مشتقّ من مسبّبات الأمراض القاتلة.

بماذا يختلف وصم "الزومبي" هنا لأناس ذنبهم أنّهم سيصابون بمرض مُفترَض (لا يعرف أحد أصله وفصله كما لا نعرف للآن على وجه اليقين أصل وفصل كورونا) عن وصف "حيوانات بشرية" الذي أطلقه مسؤولو الكيان الصهيوني لشرعنة وتبرير الإبادة الجماعية لأهالي غزّة الرازحين أصلًا تحت الحصار؟ أو عن وصف "إرهابي" الذي يُطلَق على كلّ حركة "مقاومة" وتحرّر وطني تحاول شقّ عصا الطاعة الغربية؟

بماذا يختلف عن نظر "النخبة" في العالم إلى الشعوب والمواطنين باعتبارهم جموعًا من الغوغاء والدهماء والهمج والكسالى والرعاع واللصوص والمجرمين والمدمنين و"الحثالة البشرية" الذين يجب ضبطهم والتحكّم بهم و"ترشيدهم"؟ أو عن وصف "الهمجي النبيل" أو "البدائي" اللذين استُخدما قديمًا لتبرير الاستعمار الأوروبي لقارّات بأكملها، وإبادة سكّانها واستعبادهم؟ أو عن وصف "الأغيار" أو "الغوييم" في الأدبيات التوراتية والتلمودية المحرّفة؟ أو عن وصف "البرابرة" في الأدبيات والفلسفات اليونانية القديمة، المصدر التاريخي الثاني الذي تدّعي الحضارة الغربية "الحديثة" أنّها تنهل منه؟

لا فرق إطلاقًا، فنحن هنا أمام جوهر ثابت ونمط متواتر في أصل ما يُسمّى "الحضارة الغربية"، أو "حضارة الرجل الأبيض".

اللهم هناك فرق واحد، أنّ هذه التسميات و"الوصومات" تزداد صراحة وصفاقة مع مرور الوقت، والأساليبُ المتّبعة تزداد وحشية وشيطانية مع تقدّم الزمن.

وعليه، قد تبدو الحرب على غزّة، أو في أوكرانيا، أو الانقلابات في أفريقيا، أو أيّ أحداث شبيهة متوقَّعة شرق آسيا أو أي منطقة أخرى في العالم.. قد تبدو جميعها للوهلة الأُولى حوادث منفصلة، وامتدادات لصراعات سياسية وأيديولوجية وإثنية واقتصادية غير محسومة... ولكن عند مستوى أعمق من التحليل، سنجد أنّها مظاهر لصدام أعنف بين رؤى حضارية ومعرفية متعارضة للإنسان والحياة والطبيعة تضع البشرية على مفترق طرق أخطر كثيرًا مما يتبدّى على السطح الخارجي.

بهذا المعنى تكون حرب غزّة على المدى البعيد حربًا للتاريخ، وأهالي غزّة يخوضون بدمائهم حربًا لمستقبل الشعوب والبشرية... وذلك بما يتجاوز كونها في المدى المنظور حلقة أُخرى من حلقات الصراع العربي الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، والسلام، والتطبيع.


* باحث وأكاديمي من الأردن

المساهمون