اختارت الدورة التاسعة من "مؤتمر الدراسات التاريخية" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، والتي افتتحت صباح اليوم السبت، الثورة الجزائرية موضوعاً لها، قُبَيل الذكرى الستّين لانتصارها، والتي تصادف الخامس من يوليو/ تمّوز المقبل، مستعيدةً مسارها، ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها.
وعلى مدار يومين، تُركّز أوراق الباحثين على ثورة كبرى بدأت تتوارى في النقاشات العربية، ولا سيما في حقل الدراسات التاريخية، وأخذت سردياتها تنحصر في سجلات التأريخ، وإن ظلت أصداؤها وتبعاتها تثير التساؤلات وتطرح الإشكاليات، مع احتفاظها بحضور في الوعي العربي بوصفها محطّة مشرقة في التاريخ العربي الحديث.
لم تكن الثورة ظاهرة محلّية أو إقليمية فقط، بل كانت حدثاً جللاً في المنطقة العربية والعالم برمّته، وصفه ناصر الدين سعيدوني، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، في محاضرته الافتتاحية بأنه "زلزال حضاري".
وربما لم تحقّق الثورة رسالتها كاملةً، لما يقول المحاضر إنه الثقل الاستعماري الذي سعى إلى محو الشعب الجزائري، لكنها تبقى ثورة أصيلة في بعدها الإنساني.
واستعاد المحاضر ثلاث حقبات أساسية، بدأت أولاها منذ عام 1830 حتى 1919، وشهدت مئات الانتفاضات الدامية، وخسر الجزائريون، بحسب الدراسات، ما لا يقل عن خمسة ملايين إنسان، وثانيتها النضال السياسي عبر حركة وطنية تبنّت التوجهين الاستقلالي والإصلاحي، لكنها فشلت في تحقيق مرادها.
بيد أن سر التاريخ - كما يبيّن - هو أنّ الثورات لا تقوم نتيجة عمل سياسي أو إصلاحي، بل عندما يفشل الإصلاح ويصبح الشعب أمام حائط مسدود، فكانت الثورة المسلّحة عام 1954، مضيفاً أن السياسة والأيديولوجيا تفرّقان، بينما الثورة في الجزائر، أذابت الجهويات والأفكار، ولم يعد للرأي الفردي مكان، بل كانت مصهراً دخلت فيه كلّ الطاقات لمواجهة حرب طاحنة، حتى بات الشعار واضحاً: "أنت معي يعني مع الثورة، وضدّي فأنت خارج التاريخ".
وفي قراءاته التي استغرقت عقوداً لهذه الثورة، يخلص سعيدوني إلى أنّ السلاح شيء ثانوي، بينما الإرادة والتصميم والعزيمة هي المفجّرة للطاقات.
وساق هنا أرقاماً تفيد بأن 19 ألف مجاهد كانوا يجابهون مليون جندي أوروبي، و750 ألف حركي "من الذين باعوا ضمائرهم"، ويُقصد بالحَرْكى الجزائريين الذين كانوا متعاونين مع الاحتلال الفرنسي.
هذه مسيرة استعمار ونضال على مدى 132 عاماً يلاحظ فيها المحاضر غزارة إنتاج في السرديات الفرنسية، مقابل إنتاج محدود جزائرياً وعربياً، مع وجود كمّ كبير من "العنتريات"، على حد قوله. وتحتاج هذه الثورة، كما دعا، إلى مراكز بحث وفرق وأرشيفات وعلماء نفس وأنثروبولوجيا وتاريخ وفلسفة واجتماع.
وأخيراً قال: "عشنا الثورة كحلم استقلال، ومن حقّ الأجيال الآتية أن تعيش الثورة بإقامة مجتمع مدني يعيش الحرية ويتنفّسها، ويعيش الأخوّة والتسامح في بعد إنساني وفضاء معرفي، وبناء الذات ومجتمع المواطنة".
الآفاق الفكرية
بدأت الجلسة الأولى بورقة أستاذ الفلسفة المعاصرة في قسم الفلسفة بجامعة الكويت، الزواوي بغوره، بعنوان "الثورة الجزائرية من منظور الفلسفة الاجتماعية".
انطلق بغورة من معاينة أولية للخطاب الفرنسي الرسمي وغير الرسمي، والذي يصف الثورة الجزائرية بالحرب، ولا يزال معظم الباحثين الفرنسيّين، بمن فيهم أولئك الذين يوصفون بـ"المتعاطفين مع الجزائر"، وعلى رأسهم المؤرّخ بنجامين ستورا، يستعملون عبارة "الحرب الجزائرية".
وفي المقابل، فإنّ الخطاب الرسمي الجزائري يستعمل غالباً عبارة: "الثورة الجزائرية" أو "الثورة التحريرية". ولكن الناظر في هذا الخطاب، يدرك بيسر عملية الاختزال التي يجريها للثورة التحريرية، وذلك من خلال تركيزه على الجوانب العسكرية: المعارك، والبطولات، والانتصارات.
وباستثناء بعض التواريخ الخاصة، كالإضرابات والتظاهرات التي يظهر فيها الجانب السياسي، لاحظ المحاضِر أنّ الخطاب الرسمي يكاد يختزل الثورة في بعدها العسكري والحربي.
بيد أن الثورة، والثورة الجزائرية تحديداً، لا يمكن اختزالها في البعد العسكري، كما يواصل، بحكم أنها عملية شديدة التعقيد؛ سواء من جهة التجربة السياسية السابقة عن الثورة، أو عناصرها التكوينية والبنيوية، أو طرائقها وأساليبها في الكفاح، أو في آثارها وأبعادها وآفاقها، وقبل هذا وذاك، نوعية الفاعلين الاجتماعيين القائمين.
الزمن الطويل
رأى الكاتب والأكاديمي في التاريخ المعاصر الجزائري، نور الدين ثنيو، أنّ الثورات الكبرى، التي جرت في التاريخ الحديث والمعاصر، لطالما اندرجت في الزمن الطويل، لما لها من قوّة زمنية وتأثير في سائر مناحي الحياة.
وشرح ذلك بأنّ التاريخ المعاصر ومداه الطويل ينطوي على ما قبله، ويرتّب لما بعده، في لحظة فورية. والشعوب والدول التي تيسّر لها إدراك هذه الحقيقة هي التي تمكنت من النهوض في الآجال المعقولة، لأنها رتّبت مسارها ومصيرها وفق الزمن الطويل الذي لا يحرق المراحل، ولا يخطف الحقب الزمنية المتناسبة والمتلاحقة، أي أنّها حرصت على عدم انقطاع لحظاتها الزمنية.
أفق أيديولوجي
ثلاثة أصنام علينا تجاوزُها، بحسب ما يدعو مصطفى كيحل، أستاذ الفلسفة بـ"جامعة باجي مختار" في عنّابة، الجزائر، في ورقة عنوانها "أي أفق أيديولوجي للثورة الجزائرية؟".
إذ لا تزال الثورة الجزائرية، بعد مرور ما يقارب ستة عقود، تطرح الكثير من الإشكاليات النظرية التي تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى بحث عميق، وتأمل دقيق، ومقاربات تتوسّل بأدوات البحث التاريخي الرصين وتتخيّر أنسب المناهج التاريخية لاستقراء أحداثها وفحص معطياتها وتحليل أبعادها.
ومن أجل بلوغ ذلك الهدف، يفترض المُحاضر تجاوز ما تسميه "مدرسة الحوليات" الأصنام الثلاثة في دراسة التاريخ، وهي "الصنم السياسي"، حيث يركز المؤرّخون تركيزاً مبالغاً فيه على السياسة وتحقيب التاريخ بحسب السلالات أو بحسب المعارك الكبرى، و"الصنم الفردي"، ويجري فيه الاهتمام بكبار الشخصيات وإهمال المؤسسات والظواهر الاجتماعية، و"الصنم الكرونولوجي"، ويقصد به نزوع المؤرّخين إلى اعتبار التاريخ تتابُعاً لأحداث متساوية الأهمية.
نقد الاستشراق
قبل نشر أستاذ العلوم السياسية الأميركي صموئيل هنتنغتون كتابه "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" عام 1996 بعقود، كان الاستعمار الفرنسي يستولد هذه المقولة ويدافع عنها في حربه الاستعمارية على الجزائريّين.
هذا بعض ما قدّمه ياسر درويش جزائرلي، الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الإنسانية بـ"جامعة فيتشربغ" الأميركية، في ورقته "الثورة الجزائرية: نشأة نقد الاستشراق وميلاد صراع الحضارات".
وممّا جاء فيها أن حركة تحرُّر فكري صاحبت حرب استقلال الجزائر، وأنّ سنوات الثورة الجزائرية شهدت نشأة فكر نقدي يحرّر الشعوب المستعمرة من التصوُّر الذي نسجه المستشرقون عن هذه الشعوب، والذي كان جزءاً من سياسة الاستعمار.
ووفق ما يوضّح، كان الفكر الاستعماري يخوض حرباً بالفكر والقلم للحفاظ على التصوير الذي برّر ذلك الاستعمار. وكان هذا أحد أسباب ارتفاع عدد كتب المستشرقين التي كانت تُنشر عن المنطقة.
أمّا كيف أدّت الثورة الجزائرية إلى ظهور مفهوم صراع الحضارات، يشير إلى سعي فرنسا إلى تبرير حربها على أنها ليست مواجهة بين أمتين، بل بين حضارتين الغربية والإسلامية، تؤدي فيها فرنسا دور المدافع عن الحضارة الغربية ضد "التعصّب الإسلامي".
الجزائر وفدائيو فلسطين
قدم بلال شلش، الباحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ورقته بعنوان "إذا هبت الشعوب انتصرت: تفاعل فدائيي فلسطين مع الثورة الجزائرية (1954 - 1967).
وحاولت الورقة استكشاف روح الثورة الجزائرية التي بُثّت في فدائيي فلسطين، على مستويين: أول فكري، متعلّق بالفكر السياسي المتبنّى من هذه المنظمات، وثانٍ مادي متعلّق بأثر الوجود الفلسطيني المبكر في الجزائر، في مسيرة المنظمات الفدائية الفلسطينية عموماً وخصوصاً "حركة التحرير الوطني الفلسطيني"، وانعكاس هذا الوجود المادي على فعل هذه المنظمات العسكري لحظة انطلاقتها الأولى (1965-1967) وانطلاقتها الثانية بعد حرب يونيو/ حزيران 1967.
ليبيا والثورة
من ليبيا، تطرّق صالح أبو الخير أستاذ التاريخ أستاذ في "جامعة عمر المختار" إلى تفاعُل النخب الليبية مع الثورة، ودور عبد الحميد بك درنة في دعمها.
تتناول هذه الورقة، في النصيب الأكبر منها، أسباب اختيار الملك إدريس للزعيم عبد الحميد بك درنة لمهمة دعم ثورة الجزائر، وعلاقته بزعماء الثورة الجزائرية.
ومن أمثلة ما يرد في الورقة، قصّة الشحنة الأولى من السلاح التي وصلت إلى ميناء الخمس (غرب ليبيا) قادمة من مصر، ودور بك درنة فيها، وأيضاً دوره الكبير في دعم وتنظيم "مؤتمر طرابلس"، في يونيو/ حزيران 1962، والذي جرى فيه تحديد المعالم الكبرى للدولة الجزائرية.
المحيط المغاربي
من ناحيته تناول جمال برجي، أستاذ التاريخ بـ"جامعة أبو بكر بلقايد" في تلمسان، في ورقة بعنوان "تفاعل الثورة الجزائرية مع محيطها المغاربي (1954 - 1958)" التضامن المغاربي في الأعوام ما بين 1954 و1958 على الصعيدين السياسي والعسكري، من خلال "بيان أول نوفمبر 1954" و"مؤتمر الصومام" في 20 أغسطس/ آب 1956.
وتقصّت الورقة كيفية تفاعل الثورة الجزائرية مع محيطها المغاربي، ومعرفة ردود الأفعال المغاربية تجاهها، ومصير المبادرات الوحدوية، وكذلك التعاون السياسي والعسكري بين ليبيا والجزائر.