زخّات المطر تضرب بلطف زجاج النافذة. أحلق ذقني على أنغام Kind of blue لمايلز ديفيس. يُنسيني إيقاع الساكسفون والبيانو الساحر آخرَ لحظات سنةٍ تتركنا متسلّلةً على أطراف أصابعها كاللصّ. مع مايلز ديفيس، تبتعد السنتان الموبوءتان ببطءٍ كلقطةٍ في فيلم لديفيد لينش. كوفيد، وباء، جائحة، ووهان، دلتا، أوميكرون. تعدّدت أسماء هاتين السنتين الأخيرتين لكنّ الإحساس واحد: الذهاب بخطىً ثابتة نحو المجهول. خرجت من البيت متجها إلى محطة مطعم لاماما حيث ينتظرني صديقي المسرحي "ع" وصديقتي الكاتبة "ن" العائدة من باريس.
بمروري من شارع الحسن الثاني قرب "متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر"، حضرتني المعارِض المتميّزة للسنة الماضية: معرض المصوّر الفرنسي المعروف هنري كارتييه بريسون (من 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 إلى 21 شباط/ فبراير 2022)، الذي يضمّ 130 صورة نادرة لهذا الرائد في الفوتوغرافيا الفنية تسجّل لأهم أحداث العالم من 1926 إلى 1978؛ أحداث فريدة تمتدّ من أفريقيا العشرينيات إلى تحرير باريس، مروراً بانتصار الشيوعيين الصينيين ومقتل غاندي وموت ستالين.
والحدث الآخر الذي كان نجم السنة الماضية أيضاً هو المعرض الفوتوغرافي المعنون بـ"أفريقيا في عيون مصوّريها: من مالك سيديبي إلى اليوم"، والذي جمع أهمّ المصوّرين الأفارقة من مواليد 1930 إلى 1990، أي مختلف الأجيال التي تعتبر مالك سيديبي أباها الروحي. فهذا المصوّر المالي (1936 ــ 2016) هو الذي أسّس الفن الفوتوغرافي الحقيقي في أفريقيا، ومعرضه الاستثنائي يجعل من الرباط محورا ضارباً بجذوره في الأرض الأفريقية وفي العالم.
هل يمكن لمثقفين مثلنا ألّا يجعلوا الحرّية غمّاً فكرياً؟
تتداخل الصور في رأسي وأنا أميل إلى شارع محمد الخامس متّجهاً نحو مطعم "لا ماما" الشهير. أضواء النيون الخضراء والحمراء والبيضاء والصفراء تتراقص في ليل العاصمة الدافئ. زخّات المطر والشوارع اللامعة وأشجار النخيل على جنبات الشارع تزيده جمالاً وغموضاً. حركة دائبة في الاتّجاهين معاً للمارّة، وأكثرهم من شبّان وشابّات في مقتبل العمر يلبسون كما في الأفلام الشبابية ويمشون ويضحكون ويتعانقون ويمازح بعضهم البعض. يضع بعضهم الكمامات وأغلبهم بدونها. في لحظة، تعتقد أن العالم لا يعاني من الجائحة وأن كلام الأطبّاء والمحلّلين مجرّد ثرثرة لا معنى لها. نحن أسوياء وأصحّاء وشباب ولا يهمّنا شيء في الحياة سوى الحياة. تتلاشى بسرعة هذه الأحلام الليلية أمام سيّارات الشرطة ورجال الأمن الساهرين أمام البرلمان وقرب ساحة البريد وغيرهما.
هنا، أعرّج على زنقة جانبية وأصل إلى مطعم "لا ماما". أجد النادل الشاب الأسمر سفيان أُحيّيه بحرارة لأنّني لم أره منذ بداية الجائحة. يرحّب بي أيضاً ويأخذني إلى مائدة أصدقائي. أُحيّي بقبضتي (تحيّة الجائحة) صديقي المسرحي "ع" وصديقتي الكاتبة "ن". أنزع معطفي وأجلس:
- "لا باس عليكم".
- "بخير. كلّشي مزيان"، أجابا معاً.
المطعم ممتلئ عن آخره. الناس يأكلون ويدخّنون ويشربون بفرح كأنهم ينتقمون من الوباء الذي يحرمهم من السفر والتمتّع بالحياة. جاء سفيان ليأخذ الطلبية: ثلاثة بيتزا: "لا ماما" و"فواكه بحر" و"النرويجية" ومياه معدنية ونبيذ مغربي "سيروا". دخلت الكاتبة "ن" مباشرةً في موضوع "جائزة المغرب" لسنة 2021 التي ظهرت نتائجها اليوم: "جائزة المغرب لا تتغيّر. الوجوه نفسها واللجان نفسها. والوزارة لا تقوم بأي مجهود لدعم ثقافة الكتاب في مجتمع لا يقرأ". ضحكنا وأجبناها دفعة واحدة: "ألا تعتقدين أن هذا الموضوع يمكن أن يسدّ شهيّتنا واحتفالنا بنهاية السنة؟"؛ قالت بمكر: "لا. يمكن أن نتعشّى ونتحدّث في شؤون الثقافة في البلاد".
أضاف المسرحيّ "ع" وسفيان يضع المقبّلات والمياه الطبيعية والنبيذ على المائدة، وهو يتذوّق النبيذ ويُعطي الإشارة للنادل: "ما أثارني في الجائزة هذه السنة هو المناصفة (في الشعر والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والترجمة!). هل وزارة الثقافة فقيرة وتريد أن تُرضي الجميع أم أن اللّجان بخيلة؟ ثم لماذا يقدِّم أغلب الكتاب المغاربة لجوائز الخليج (أكثر من 700 كاتب وكاتبة) ولا يقدّم لجائزة الكتاب في المغرب سوى 192 مؤلّفاً؟". قلت مازحاً: "يبدو أن ليلتنا لن تمرّ على خير. لكن بالفعل جائزة الكتاب في المغرب لم تغيّر مرجعيّاتها الفكرية والعلمية والإبداعية منذ عقود".
تدخّل المسرحي "ع" وهو يُشعل سيجارته: "المسرح منذ انطلاق الجائحة يراوح مكانه. فرغم أن وزارة الثقافة خصّصت له دعماً استثنائياً سنة 2020 (أكثر من 19 مليون درهم خُصّصت لدعم 173 مشروعاً)، فهذا لا يكفي. والمشكل لا يكمن في التمويل فقط، بل في الرؤية الثقافية والمجتمعية لهذا الفنّ: أين مسرح الطيّب الصديقي؟ ومحمد مسكين؟ وعبد الكريم برشيد؟". قاطعته الكاتبة "ن": "لا يمكن أن تقارن الماضي بالحاضر". أكمل كلامه: "أيّ ماضٍ وأي حاضر؟ الإبداع يتجاوز الزمن وإبداعنا اليوم تفاهة شاملة".
هنا اشتدّ النقاش وحضر النادل سفيان بالبيتزا، فانقضضنا عليها كأنّنا كنّا معتقلين منذ قرون في وباء لا نعرف اسمه. تكلّمت بعد القطعة الثانية من البيتزا: "ومع ذلك، فهذه السنة شاهدتُ مسرحيتين لا بأس بهما". وافقتني الرأي الكاتبة "ن" وأضافت: "خذ مثلاً مسرحية "المدينة لي" لفرقة "أنفاس" التي مثّلت المغرب في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" لهذه السنة ومسرحية نبيل لحلو، المخرج المسرحي والسينمائي المعروف، "السيّدة ذات المسدّس من عيار 45"...
رفع المسرحي يده معترضاً: "تعرفون أن الاستثناء يؤكّد القاعدة". انفجرنا ضحِكاً. تساءلنا: "هل يمكن لمثقّفين مثلنا أن يتعشّوا في أجمل مطعم بيتزا في البلاد دون أن يقلبوا الحرّية غمّاً فكرياً؟". "مستحيل"، قالت الكاتبة "ن" ثم استدارت إلى المسرحي "ع": "والسينما، ما رأيك فيها هذه السنة؟ ألم يعجبك 'ارفع صوتك' لنبيل عيوش و'بورنينغ كازابلانكا' لإسماعيل العراقي؟".
ركضنا كالأطفال ونحن نصرخ ضاحكين: الشعب يريد الثقافة
أجاب المسرحي "ع" مبتسماً: "هذا النوع من السينما، لمخرجين ثقافتهم فرنكوفونية بالأساس، يطرح مشكلة هويّة السينما المغربية. نبيل عيوش يتحدّث عن شباب (شابّات بالأساس)، يختارون غناء الراب في حيّ شعبيّ ليقطعوا مع الثقافة التقليدية 'المتخلّفة'. شارك الفيلم في مهرجان 'كان' الفرنسي وتعرّض لنقد شديد ملخّصه أنه فيلم سطحيّ لا يعرف المجتمع المغربي! أمّا الثاني، فيتناول تمرّد الشباب بواسطة موسيقى الهارد روك! فيلم ضائع بين أسلوب ترانتينو والويسترن!".
احتجّت الكاتبة "ن": "أنت قاسٍ جدّاً". نظرتْ إليّ لتستطلع رأيي. قلت لها: "لن أفيدك في السينما". قهقه المسرحي وقال: "والكتاب أيّها الكاتب؟". جاء النادل: "بعد الأكل تريدون قهوة أم حلويات؟"، "قهوة للجميع".
بسرعة جاءت القهوة وعدتُ حيث توقّفت: "بالنسبة إلى الكتاب، المسألة لم تتغيّر عن السنة الفارطة. الناشرون لم يحصلوا على الدعم الاستثنائي وما زالوا يتقاتلون للاستمرار في وضعية صعبة عقّدت فيها الجائحة مهامّهم. أمّا الكتب التي أثارت انتباهي، فمن بينها: 'التحليل النفسي في البلدان الإسلامية' لجليل بناني عن دار 'توبقال'، و'كيف نفهم الرواية الجديدة' لأحمد المديني عن 'ملتقى الطرق'... وإذا عدنا إلى آخر تقرير حول النشر في المغرب، نجد أن 81.12 % من الإصدارات باللغة العربية، وأنّ الفرنسية تقلّصت إلى 16.25 % بعدما كانت تتجاوز 35 % في الماضي".
نظر إليّ المسرحي "ع" والكاتبة "ن" ففهمتُ أنّ وقت الانصراف قد حان. الساعة 11 ليلاً. جاء النادل بالحساب. خرجنا فرحين تحت زخّات المطر إلى شارع محمد الخامس. ركضنا كالأطفال ونحن نصرخ ضاحكين: الشعب يريد الثقافة! ركبنا سيّارة المسرحي "ع" وانطلقنا إلى الحرّية...
* شاعر من المغرب