الثقافة الألمانية... لماذا ترى بعين واحدة؟

الثقافة الألمانية... لماذا ترى بعين واحدة؟

21 ديسمبر 2023
الشرطة الألمانية تعتقل طالبة شاركت في مظاهرة تضامنية مع فلسطين، منذ أيام (Getty)
+ الخط -

بينما تشهد الساحة الثقافية العالمية ما يمكن أن نسمّيه بالانبعاث العالمي لذاكرة فلسطين من خلال مجموعة من مظاهر التضامن الإنساني غير المسبوقة التي ابتكرتها حركات شبابية احتجاجية، زادت حركات يهودية جديدة من زخمها. بالتوازي مع هذا كلّه، نجد أنَّ الثقافة الألمانية قد أصبحت لا ترى إلّا بعين واحدة، شأنها في ذلك شأن السياسة والإعلام في هذا البلد المتحرّج من ماضيه، حيث لا مكان للصوت الفلسطيني أو للصوت المُتضامن مع ألمه في ظلّ "التضامن غير المشروط" مع "إسرائيل" كما سمّاه ودعا إليه المستشار الألماني.

وباسم هذا التضامن الأحادي، جرت بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر محاولات تجريم الرموز الفلسطينية، فقد كان يكفي  رفع علم دولة فلسطين فحسب لإلصاق تُهمة معاداة السامية الجاهزة والثقيلة في الوقت نفسه. كان الهدف السياسي من هذا استغلال الظرف الحالي من أجل التخلّص النهائي من "عقدة" مُعاداة السامية، على حساب الطرف الضعيف. لكنها محاولات باءت بالفشل بسبب زخم الاحتجاجات المحلية والعالمية ضد الحرب على غزّة. 

هكذا انتقلت سياسة تكميم الأفواه هاته إلى الحقل الثقافي الألماني، الذي بدأ صُنّاعه بممارسة ثقافة الإلغاء باسم تذكّر المحرقة النازيّة والمسؤولية التاريخية، أي تذكّر المحرقة من أجل نسيان ما يجري حالياً في قطاع غزّة المُحاصر. 

تذكّر المحرقة من أجل نسيان ما يجري في قطاع غزّة 

برز ذلك بوضوح في بيان هابرماس الخجول والمُخجل؛ وهذا هو التذكّر الانتقائي الذي يُفضي سوء استخدامه إلى صمت تواطؤي كما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. وهو أيضاً، في الوقت ذاته، نمطٌ من أنماط النسيان والتناسي، تصفه الباحثة الألمانية أليدا أسمان، صاحبة نظرية الذاكرة الحضارية، بالسلاح الثقافي، والذي أُشْهِرَ في وجه عدنية شبلي، حيث جرى - كما هو معروف - "إلغاء" حفل تكريمها في معرض الكتاب بفرانكفورت فقط لكونها "فلسطينية". ربّما دفعتها التهمة المزدوجة الجاهزة: معاداة السامية والإشادة بإلارهاب إلى الصمت الدفاعي، صمت الضحايا الأكثر إيلاماً!

هذا الإلغاء كاد أن يطاول مؤخراً ماشا جيسين، الكاتبة الروسية الأميركية من أصل يهودي، قبل أن يجري منحها "المُتملّمل" لـ"جائزة حنة آرندت" للفكر السياسي في حفل تكريم صغير وغير رسمي. والسبب في هذا عقدها لمقارنة بين وضعيّة غزّة الحالية ووضعيّة الغيتو اليهودي في المرحلة النازية، في مقال نُشر لها في مجلة "نيويوركر" أياماً قبل حفل منحها الجائزة؛ وهو ما عرّضها لحملة شرسة تطالب بإلغاء منحها الجائزة.

لكن هذا لم يثنِ الكاتبة الروسية عن شرح مُقارنتها هاته لوسائل الإعلام الألمانية بإصرار، حيث قالت: "إنَّ تفرّدَ المحرقة النازية عادة ما يُفهم على أن المقصودَ منه أنّه لا يمكن مقارنة المحرقة بأحداثٍ أخرى. من جهتي، أرى أنَّ خصوصية المحرقة تعني أنّه ينبغي دائماً مقارنتها بأحداث أخرى. إنَّ مقارنة الأشياء التي حدثت أثناء الهولوكوست أو قبلها بالأشياء التي تحدث اليوم هي أفضل فرصة نمتلكها لمنع حدوث الهولوكوست مرة أخرى". وأضافت: "إنَّ ما نعاينه الآن من هجوم عسكري إسرائيلي على غزّة وحقيقة أنَّ السكان لا يستطيعون مغادرة تلك المساحة المُحاصرة، يشبه في الواقع تصفية الغيتو"
.
وتعزو الكاتبة رفضَ الوسط الثقافي الألماني لهاته المقارنة إلى أحاديّة سياسة التذكّر الرسمية المتّبعة في البلد، بقولها "لقد جعلت ألمانيا من الاعتراف بذنبها والتشديد عليه جزءاً أساسيّاً من هويّتها الوطنية. ولقد ميّزت حنة آرندت منذ فترة طويلة بين الذنب والمسؤولية. أعتقد أنّه يمكن القول بأن ما تدّعيه ألمانيا ليس المسؤولية بالمعنى الذي أرادته آرندت، بل هو الشعور بالذنب".

وهنا لم تتوانَ هذه الكاتبة الصريحة عن وصف ثقافة التذكّر الرسمية في ألمانيا بكونها مُعضلة، حيث قالت في حوارٍ لها: "لقد صنعَ الألمان لأنفسهم مُعضلة غريبة، تتلخّص في محاولتهم، من ناحية، أن يكونوا على وعي تامٍّ بالهولوكوست، ولكن من ناحية أخرى، يتعيّن عليهم الحرص على عدم تكيّيف هذه الذكرى أو إضفاء طابع نسبي عليها، وذلك من خلال جعلها كونية". هكذا استطاعت جيسين، بفضل إصرارها على الخروج الإعلامي، إفشال محاولة إسكات صوتها، لكنّها قالت :"إنّه في ظلِّ المناخ الثقافي السائد حالياً، ربّما لم تكن حنة آرندت ذاتها لتحصل على جائزة "حنة آرندت" في ألمانيا اليوم!".

صحيح أنَّ أليدا أسمان قد سعت منذ بداية الأزمة إلى لفت الأنظار حول المعضلة الألمانية بقولها بوضوح "لا يحق لنا نحن الألمان أن نُسقط ببساطة معاداة السامية الخاصّة بنا على الفلسطينيين، بل على العكس من ذلك؛ تقع على عاتقنا مسؤولية الاعتراف بتاريخهم ووضعهم الخاص بشكل مستقل عن تاريخنا ووضعنا". إلا أن هذا الصوت التذكيري ينتمي بدوره إلى استثناءات ألمانية نادرة، لا يزال من الممكن عدّها على رؤوس الأصابع بعد مرور كل هذا الوقت.

ليس من المستغرب إذاً أن تُعلن الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر أنّها لم تعد ترغب في القدوم إلى ألمانيا. ليس من المستغرب أيضا أن يدلي العديد من المشتغلين في الحقل الثقافي بتصريحات مماثلة في الأسابيع الأخيرة يشيرون فيها بوضوح إلى أنَّ الثقافة الألمانية لم تعد تنظر إلى العالم إلّا بعين واحدة ووحيدة على الأقل في المرحلة الراهنة العصيبة! 


* باحث مغربي مقيم في ألمانيا

المساهمون