الترجمة كمقاومة

31 أكتوبر 2023
فلسطينيون يبحثون عن ذويهم تحت الأنقاض بعد غارة صهيونية، 26 تشرين الأول/ أكتوبر (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب، ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.


إنّ مشاهد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والميز العنصري التي تطحن في هذه الأثناء شعبنا الفلسطيني المقاوم، الواقف كالعاصفة في وجه الصمت العربي والغربي اللاأخلاقي، تفقأ عيوننا وتُدمي قلوبنا ونحن نشاهدها على شاشات تلفزيونات العالم وعلى الشبكات الاجتماعية حين لا تحجبها. ورغم فداحة المشهد، فالسؤال الذي يطرحه الإنسان العربي العادي اليوم هو: لماذا يصطفّ الغرب وراء نظام محتلّ قاتل مُجرم؟ هذا الغرب الذي غزا عقولنا وثقافتنا بـ"قيمه الكونية".

الآن يكيل بمكياليَن: الحياة للقاتل والموت للضحية. هذه الازدواجية يمكن لنا أن نُحلّلها من الناحية الثقافية، إذ دخلت الحداثة الغربية مجتمعاتنا الثقافية من نافذة عنف الاستعمار وبقيت رغم رحيله متمكّنة من بنياتنا الفكرية والثقافية والذهنية من خلال اللغة والبنيات المعرفية والفكرية في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسّساتنا الثقافية.

ويمكننا الوقوف على هذه الهيمنة في العلاقة بين الغرب والشرق في مجال الترجمة؛ فالترجمة في العالم العربي نقلت النصوص الغربية الأدبية من دون مرجعية نقدية للأيديولوجيات المتحكّمة فيها؛ وهكذا وجّهت عملها إلى الوجه اللامع من الغرب دون أن تنتبه إلى أن صورتنا الباطنية عنده، والتي تتمثّل في أنّنا شعوب "متخلّفة" يجب أن تتحضّر من بداوتها ووحشيتها وتصير خادمة له ولثقافته.

الترجمة اليوم صراعٌ عالمي بين ثقافات مهيمنة وأُخرى تابعة

والقليل الذي ينشره الغرب يدخل في هذا التصوُّر. وكما يقول المؤرّخ الفرنسي باتريك بوشران، فإن ترجمة القرآن تمّت بطلب من القسّ المسيحي كلوني سنة 1143 للميلاد لمعرفة العدوّ، أي المسلمين، للقضاء عليهم في سياق الحروب الصليبية. وما زالت هذه البنية الفكرية تعمل إلى يومنا هذا. وفي سياقها، نجد أيضاً أنّ الخلفية المؤسّسة على التفوّق الحضاري وتحقير الآخر في بنية الفكر الاستعماري ما زالت فاعلة في مجتمعاتنا من خلال اللغات الأجنبية وثقافات الاستهلاك. وهذه عقلية ما زلنا نعيشها مع غالبية كتّاب اللغة الفرنسية في المغرب الكبير؛ حيث المستعمَر يتبنّى منطق المستعمِر.

وهذا ما يُفسّر بعض المواقف المُخزية لبعض الكتّاب المغاربيّين، أمثال الطاهر بن جلّون وياسمينة خضرا وغيرهما، ممّا يحدث، اليوم، من جرائم حرب في حق المدنيّين والأطفال والنساء في فلسطين. ثقافتنا ابتلعت دون تمحيص "القيم الكونية" الغربية ونقلتها من خلال الترجمات (كلاسيكيات الأدب الغربي، مركزية الفلسفة الغربية، الجوائز الغربية...) ولم نستوعب أنّ الترجمة ليست جسراً مثالياً يُسهّل حوار الثقافات، بل هي مقاومةٌ لكل الأشكال التي لعبت فيها دوراً حاسماً كالاستعمار الجديد والإبادة الجماعية والميز العنصري والهيمنة الثقافية. هذا الوعي بالدور الإستراتيجي للترجمة في تفكيك العقل العربي المستلب اليوم هو المطلوب.

فالهيمنة التي نعيشها، اليوم، ليست ثقافيةً فحسب، بل هي اقتصادية وسياسية وفكرية. والمقاومة تروم تفكيك النسيان الذي يمسّ قضايانا الوطنية والقومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهذا النسيان لا يمكن أن يقاوَم إلّا بمشروع فكري واضح، يتعلّق بما نترجمه اليوم من الغرب. والمسألة موكولة للمترجمين أنفسهم الذين عليهم أن يتوجّهوا في أعمالهم إلى الفكر النقدي الغربي الذي يُفكّك الصورة الخادعة التي تروّجها الروايات العالمية الشهيرة التي تملأ معارض كتبنا من المغرب إلى الخليج، والانفتاح على الجنوب العالمي (أفريقيا، آسيا، أميركا اللاتينية).

بدأت بعض هذه الترجمات ترى النور، لكنّها ما زالت محتشمة في العالم العربي. ترجمنا الفكر ما بعد الاستعماري لكلّ من إدوارد سعيد ومنى بيكر وهومي بابا ونغوجي واثيونغو، لكنّنا لم نُترجم الفكر الديكولونيالي ولم نضع إستراتيجية لنقد الغرب... على المترجم أن يفهم أنّ دوره حاسم في اختيار النصوص والمجالات (أدب، علوم اجتماعية وإنسانية) التي تسهم في مساءلة الأفكار السائدة وتفكيك العقليات التابعة وتقوية الحسّ النقدي عند قارئه. وعليه أن يعمل فردياً ويترك المسؤولية لباقي مكوّنات سلسلة الكِتاب من ناشرين حقيقيين غيورين ومؤسّسات ثقافية مستقلّة. 

إن الترجمة اليوم صراعٌ عالمي بين ثقافات مهيمنة وثقافات تابعة عليها التزام الحذر في ما تُغذّي به معرفتها وأجيالها والإطار الذي يسمح لنا بفهم آلياتها ومحاربتها هو المقاربة الديكولونيالية والفكر النقدي الذي ينشط فيها مفكّرون ومفكّرات بارزون من أمثال أشيل مبيمبي، وفرانسواز فرجيس، وسلوى لوست بولبينة، تُرجم بعضهم في المغرب مثل الكاتبة الفرنسية تيفان سمويو "الترجمة والعنف" (توبقال، 2023). 

فهذا الفكر النقدي الذي ما زال مجهولاً في العالم العربي يُبرز بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الترجمة هي حصان طروادة الذي نُدخل به لبيوتنا ثقافات الخنوع والتبعية والتطبيع، لأنّ ما نُترجمه في الغالب يكرّس دونيتنا وتخلّفنا وتبعيتنا في مجتمعاتنا. إنّ مقاومة الهيمنة الفكرية الغربية يجب أن يصاحبها أيضاً مقاومة لثقافة عربية تزدهر في بعض دول الخليج من خلال مؤسّسات تُشجّع التدجين والتنميط الإبداعي وتحييد الفكر النقدي بواسطة مشاريع ترجمة غير مكتملة، وورشات كتابة تُنتج أدباً شكلياً لا حياة فيه، تغيب عنه أبسط مقوّمات الحسّ النقدي وتُغري الكتّاب والكاتبات الشباب بالمنح الكبيرة، والمخضرمين والشيوخ بالتعويضات الخيالية والجوائز السمينة. والنتيجة أنّ ثقافتنا صارت تُكرّس الوصولية والأنانية والمصلحة الذاتية على حساب المصلحة الوطنية والقومية.

ولن تعود المقاومة الحقيقية وتعود القضية الفلسطينية إلى قلب النخب العربية إلّا بالوعي الحاد بالتبعية الكارثية للثقافة الغربية، وبضرورة النقد المزدوج للخروج منها فكرياً وإبداعياً والانفتاح على الجنوب العالمي الذي نشترك معه في واقع وثقافة وتحّديات كثيرة.
 

* شاعر ومترجم من المغرب
 

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الخامس من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون