الترجمة بين العربية والتركية: قصة قصيرة حزينة

20 فبراير 2021
المؤرح التركي خليل إينالجيك في منزله في أنقرة، 2015 (Getty)
+ الخط -

يشبه واقع الترجمة بين اللغتين العربية والتركية قصّةَ علاقة العرب والأتراك بعد انهيار الدولة العثمانية، والتي يصفها صديقي الشاعر العربي بأنّها "قصّةٌ قصيرة حزينة". وبغَضّ النظر عن قلّة ما تمّ إنتاجه من ترجمات بين الثقافتين - رغم أنّ أبناءهما عاشا تاريخاً مشتركاً لقرون - فإنّ هنالك مشكلاتٍ عديدةً يمكن الحديث عنها حول هذه الأعمال، على قلَّتِها.

كثيراً ما يتمّ اتّهام المترجمين بجملة سريعة من كلمتين: "ترجمة رديئة". لكنّنا ننسى، في كثير من الأحيان، مسؤوليّة دور النشر في صدور ترجمة بهذه الرداءة، وفي السماح بنشرها لأسباب تجاريّة في المقام الأول. وفي بعض الأحيان، قد تدفع هذه الأسباب التجاريّة بعض دور النشر إلى إجبار المترجم على تغيير عنوان ترجمته، ليس بغرَضٍ فنّيٍّ مقبول، ولكن لمآرب إيديولوجية مثلاً.

هذا ما حدث مع المترجم السوري الراحل عبد القادر عبد اللي (1957 - 2017)، إذ غيّرت إحدى دور النشر عنوان ترجمته لكتاب المؤرخ التركي إلبير أورتايلي من عنوانه الأصلي "القرن الأطول للإمبراطورية العثمانية" إلى "الخلافة العثمانية: التحديث والحداثة في القرن التاسع عشر"، لِما تحمله كلمة "الخلافة" من دلالات إيديولوجية يمكنها أن تأتي بمردود أكبر لدى شرائح واسعة من الإسلاميين العرب.

أقل ما يمكن قوله إنها ترجمات حَرفية ولا تمت للأدب بصِلة

وخلال السنوات الأخيرة، تعرّضت دراسات أورتايلي، المؤرّخ التركي الأهمّ اليوم في مجال التاريخ العثماني، إلى "تشويه" في ترجماتها العربية. والمقصود هنا الترجمات التي صدرت عن "الدار العربية للعلوم ناشرون". وقد اعترض كثيرٌ من المختصّين في التاريخ العثماني على مثل هذه الترجمات، التي يتّضح منذ مطالعة صفحاتها الأولى أنّ مترجمها يجهل تماماً مصطلحات هذا المجال وسياقاته التاريخية. ولا ندري إن كانت الدار تتعمّد إخفاء اسم المترجم من الغلاف وتكتفي بذكر اسم "مركز التعريب" داخل الكتاب، أم أنّ مسؤولي الدار يخجلون من ذكر اسم المترجم غير المعروف في هذا المجال؟

ولم يحدث هذا مع مؤلَّفات أورتايلي فقط، بل أيضاً مع الكتب الأدبيّة المترجمة عن التركية التي تصدرها الدار نفسُها، مع إخفاء اسم المترجم في بعض الأحيان. وأقلُّ ما يُقال عن هذه الترجمات، التي من المفترض أن تكون أدبيّة، أنّها حَرْفيّةٌ ولا تمتّ إلى لغة الأدب بصِلة، كما لا تعكس روحَ الكاتب وأسلوبَه. ولا تقتصر المشكلة هنا على مجرّد صدور ترجمات رديئة عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، لكنها تُضيّع الفرَصَ أيضاً على دور نشر أخرى ترغب في ترجمة هذه الكتب، لأنّ الدار المذكورة قد حصلت على حقوق الترجمة إلى العربية لسنوات.

وهكذا نكون قد حُرمنا من صدور ترجمات جيدة تمكّننا من تكوين صورة واضحة حول الأدب التركي، وبناء جسور ثقافيّة حقيقيّة مع تركيا، خصوصاً بعد انفتاح البلد على الثقافة العربية إثر انغلاق وانقطاع استمرّا عقوداً من الزمن، وكذلك بعد وجود أكثر من أربعة ملايين عربيّ اليوم في تركيا. فهل تعمل الدار المذكورة ومثيلاتها على بناء هذه الجسور الثقافيّة بشكل حقيقيّ، أم تكتفي بتعداد عناوين الكتب التي أصدرتها عن التركية، بغضّ النظر عن مستوى هذه الترجمات؟

السلطنة العثمانية وأوروبا - القسم الثقافي

المثير للدهشة أنّ الأخطاء في ترجمات هذه الدار عن التركية قد وصلت إلى أسماء المؤلّفين، وهي كارثةٌ من نوع آخر، سبق أن حدثت أيضاً في ترجمات أورتايلي. الحديث هنا عمّا جرى مع إحدى الترجمات للمؤرّخ التركي البارز خليل إينالجيك (1916 - 2016)، الذي كان أستاذ التاريخ العثماني في "جامعة بيلكنت" في أنقرة، ودرّس التاريخ العثماني في أكثر من جامعة حول العالم، مثل "شيكاغو" و"كولومبيا" و"برينستون" وغيرها. وقد لفتت مؤلّفاتُه انتباه المختصين في الدراسات العثمانية منذ أن نشر أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراه، تحت عنوان "عصر التنظيمات والمسألة البلغارية". وكانت جهوده قد استمرت على مدار عقود في هذا المجال.

تُعَدّ كتب إينالجيك مرجعاً أساسياً في التاريخ العثماني في أقسام الدراسات العثمانية في الجامعات داخل تركيا وخارجها، وأبرزها "الإمبراطورية العثمانية: العصر الكلاسيكي 1300 - 1600". ورغم اهتمام الباحثين العرب المختصّين في التاريخ العثماني بإصدارات خليل إينالجيك، منذ صدور ترجمة فريدة لكتابه الشهير "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء حتى الانحدار" للباحث والمؤرخ والمترجم الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط عن دار "المدار الإسلامي"، إلّا أنّ هذا لم يحدث مع كتابه الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" بعنوان "السلطنة العثمانية وأوروبا"، بعد أن وضعت الدار اسم المؤرخ بشكل خاطئ على الغلاف: خليل إنالسيك.

كارثةٌ جديدة تتمثّل بعدم نقل أسماء المؤلّفين بشكل صحيح

ومن دون أن نقرأ هذه الترجمة، البائنة من عنوانها كما يُقال في لهجاتنا العامّيّة، يمكننا تخمين مستواها. وقد وصفَها بعض الباحثين المختصّين بأنّها "مليئة بالأخطاء في كثير من الأسماء والأماكن والمصطلحات". وإذا فكّرنا في الأمر بنِيّةٍ حسَنة، فمن الممكن أن نقول إن الدار قد اختارت، لسببٍ ما، أن تكلّف أحد المترجمين بنقل الكتاب عن الإنكليزية (ربما تكون تكلفة الترجمة عن الإنكليزية أقلّ من تلك التي كانت لتُدفَع لو نُقل من التركية مباشرةً)، لكنّ هذا كارثةٌ أيضاً. فكيف لكتابٍ مختصّ بالتاريخ العثماني وكُتب بالتركية أن يُترجم إلى العربية عبر الإنكليزية؟ وهذا يعني أيضاً أنّ الكتاب لم يمرّ على أيّ مختصٍّ قبل صدوره.

أمّا إذا كان الكتاب قد تُرجم عن التركية، فهذا يعني أن المترجم لا يعرف أن حرف الـC في التركية يُقابله حرف الجيم في العربيّة. وفي هذه الحالة، يمكن ترك الأمر إلى القارئ ليتخيَّل الطريقة التي استخدمها المترجم في ترجمة كتاب مهمّ مثل هذا الكتاب الذي يتناول فيه إينالجيك العلاقات السياسية والاقتصادية للدولة العثمانية مع أوروبا، ويناقش فيه مفاهيم التغريب والتحديث في عهد أتاتورك. كما أنّ هذا يعني أيضاً أننا سنُحرم لسنوات من قراءة ترجمة جيّدة لهذا الكتاب وغيره، في ظلّ ما تقدّمه الدار المذكورة على أنّه "ترجماتٌ" من التركيّة.


* كاتب ومترجم مصري عن التركية مقيم في إسطنبول

آداب وفنون
التحديثات الحية