فوجئ العالَم، أواخر القرن العشرين، وتحديدا في 5 يونيو/حزيران 1996، بإنجاز علمي باهر تمثَّل في "استنساخ" "دُولِّي" -أشهر نعجة في التاريخ -من خلية جسدية بالغة، في معهد روسلين باسكتلندا. وأثار قدومُ هذا المخلوق العجيب مِن غير تسافد بين ذكر وأنثى نقاشا أخلاقيا وفلسفيَّا ودينيًّا، ذلك أنّ "دولي" لا أبَ لها ولا أُمَّ، بل هي كائنٌ شبيهٌ خالص وحيٌّ لأصلها، ولذلك لا يستقيم إطلاق صفة "النّسخةِ" عليها.
وعرف العالَم العربي تلك النقاشات نفسها، وزاد عليها كالعادة عند كل فَتْح علميّ باهر يأتي إلينا من الآخَرِ نقاشا دينيا، بخصوص الوضع الاجتماعي لهذا الكائن، في حال تجرؤ الإنسان على استنساخ كائنات بشرية من غير تزاوج وجِماع بين ذكر وأنثى، أي ما سُمِّي وقتَها بالتكاثر اللاجنسي.
وقد أُثيرَ نقاش آخر في المجال اللغوي، لا يقل أهمية عن هذا، تخلَّلته اعتراضاتٌ على ترجمة الكلمة الإنكليزية "كْلُونِين" باستنساخ، واقتُرِحتْ مُفرداتٌ أخرى عِوَضها، من بينها "الصورة"، على غرار ما طرحه غدامير بصدد العلاقة بين الأصل والصورة في الأعمال الفنية ضِمن كتابه "الحقيقة والمنهج". وكانت أبرز تلك الاقتراحات "النَّسِيلةَ"، التي يُفيد مصدرها النَّسلُ الأخذَ مِنْ نسْل حيّ، وانتصر لها كثيرون، بحُكم أن "النسخة" و"الصورة" تكونان من جامد كالمنحوتات والكُتب وغيرها.
هوراس الروماني كان أكثر انفتاحاً باعتباره الترجمة تفاوضاً
وبنقل النقاش إلى فضاء الترجمة الأدبية، وهو نقل مشروع على اعتبار أن كل ما تلمسه اللغةُ تمسُّه الترجمة، نجد أنّ كثيرا من المنظِّرين للأخيرة ودارسيها يُطالبون النصوصَ المترجَمة بأن تكون وفيَّة للأصل بالضرورة، بينما يَسخر آخرون من فكرة الأصل برُمّتها؛ وفي مُقدِّمتهم خ.ل.بورخيس -بقيمته في الكتابة الأدبية والترجمة معا، وبهُزئه اللاذع- في غير تردد، فيتهكم على هذه المُصادرات النقدية وينال من مُتبَنِّيها، لمَّا ذهب إلى أنَّ "الأصل خائن للترجمة دوما"، أو قوله إنَّ "الترجمة ترتقي بالأصل وتجوِّدُه" ربما لإيمانه أنْ لا أصلَ بتاتا في مجال الكتابة، فالعالَم برُمَّته، في اعتقاد الكاتب الأرجنتيني، يؤلِّف كتابا واحدا منذ اكتشاف الكتابة.
وصدُورا عن موقف ديني أيضا، تمثَّل قُدماء، وعلى رأسهم القديس جيروم (331-420ق.م) الترجمةَ بصفتها عملا آليّا، نتيجتُه تطابُقٌ كلي مع "الأصل" وتَكرارُه؛ بإعادته حرفيا كلمةً كلمة وفكرةً فكرة وصورة صورة، وأطلق هؤلاء على ترجمتهم نعت "الأمينة"، وهذا هو النسخ أو الصورة، وهو ما يُجهض كل محاولة للترجمة، ويجعلها مستحيلة.
والعجيبُ أن هوراس الروماني (65 ق.م-6م) المتقدِّم زمَنيا على القديس جيروم، كان أكثر انفتاحا لمّا نظر إلى الترجمة بصفتها تفاوضا، وأنها لا تتردَّد في أن تُعيد خلق نص أصل في صورة نص آخر؛ داخِلَ فضاء لغوي وثقافي مختلف، له نظامُه وخصائصه وسننُه وأساليبه وصُوَره، التي قد تتشابه مع الأصل في أحايين، لكنَّها تجعل التطابق معه مستحيلا، فتحتذي الترجمة بذلك عمَلَ بْيِيرْ مِنَار الذي كرَّس حياتَه لكتابة كيخوطي معاصر وَفْق ما تخيَّله خورخي لويس بورخيس، لمّا جعل "طموحَه العجيب أنْ يُنْتج صفحات تتطابق -كلمةً كلمة وسطرا سطرا- مع ما حبَّره مِيغِل دِ ثِرْبانْتِس".
لا شيءَ يمنع من إطلاق "النسيلة" على النص المترجَم؛ طالما أن الترجمة هي نِتاج اتصال نصي بين اثنيْن، يأخُذ فيه نص مُستقبِل من كائن آخَرَ حيٍّ هو الأصل، الذي وصفَه فلاسفة الترجمة، وعلى رأسهم والتر بنيامين، بكونه يتحرى الاستمرارية في الحياة، وأن سبيلَه إلى ذلك هو الترجمة.
وللإضافة، فإنَّ النَّسل في العربية هو الخَلق، وما تقوم به الترجمة هو إعادةُ خلق نص أصل في صورة نص آخر داخل سياق لغوي وثقافي مختلف، له نظامُه وخصائصه وسنَنه وأساليبه وصُوَره، التي قد تتشابه مع الأصل في أحايين، لكنْ يستحيل أن تتطابق معها.
لكنّ الأهمَّ من النقاش اللغوي هو أنّ النَّسيلَ في العربية هو "العسلُ إذا ذاب وفارق الشَّمعَ"، و"أنّ النسيلَ والنَّسيلة جميعا العَسلُ"، لذلك يكون على المترجِم أن يقومَ بدور النحلة، التي تُطوِّف على أجمل الزهور والورود، لترشف أفضل رحيق بها، فتُقدّمَه لمُنتظِريها.
* أكاديمي ومترجم من المغرب