الترتيب الموضوعي للقرآن: مدخل آخر للتأويل

20 ابريل 2023
داخل مسجد السلطان سليمان في إسطنبول، الذي يعود بناؤه إلى القرن 16 (Getty)
+ الخط -

قد يصدُّ القرآن بعضَ قارئيه بما يتوهّمونه اضطرابًا في موضوعاته، وانتقالاً غير مفهوم بين محاوِره ومقاطعه. فالسّورة، بل الآية الواحدة أحيانًا، ولا سيّما تلك التي نَزلت خلال الفترة المدنيّة، قد تنطوي على موضوعات شتّى، يأخذ بعضها برقاب بعضٍ، ومثلَ "فُسطاط" تتضمّن أفكارًا متباينةً، لا يبدو الرابط المعنويّ بينها واضحًا لدى الوهلة الأولى. 

وهذا ما سجّله رجل الآداب الفرنسي جيل لا بوم (1806 - 1876)، في كتابه "القرآن مُحلّلًا" (1878) الذي انبرى فيه، اعتمادًا على الترجمة الفرنسية للقرآن التي أنجزها معاصِرُه ألبير كازيميرسكي (1808 - 1887)، يقسّم آياته بحسب محاورها، فوَصل بها إلى أكثر من خمسين محورًا، فرَّعها جميعًا إلى ثيماتٍ جزئية مثل العقائد والأخلاق ومقامات الرُّوح والمعاملات ووصف الكون ومظاهر الطبيعة والأدعية والسِّيَر والتواريخ ومشاهد القيامة وغيرها. وضاع هذا الكتاب القيّم في غياهب النسيان، رغم ما بذل فيه من مجهود ترتيبي، إلى أن تَرجَمه العالِم المصريّ محمد فؤاد عبد الباقي (1882 - 1967) بعنوان "تفصيل القرآن" عام 1959. 

وقد نهض بمثل هذا العمل المفكّر المصريّ محمد عبد الله درّاز (1894 - 1958) في: "مَدخل إلى القرآن: عرضٌ تاريخيّ - تحليليّ ومقارن" (1951)، حاول فيه استعراض محاور القرآن المتّصلة بالأخلاق والمعاملات الواردة في آياته. كما أنجزَ صبحي عبد الرؤوف عصر كتاب "المعجم الموضوعي لآيات القرآن الكريم" (1990) مفصِّلاً موضوعاته تحت ستّة عناوين رئيسة هي: أركان الإيمان والإسلام والتقوى والكُفر والفسوق والعصيان. 

وفي صفحاته التي تفوق الثمانمائة، يوفّر هذا البحث مزايا للمُستخدمين، مثل الأئمة والدُّعاة، الذين يودّون توظيف الآيات في موضوع مخصوص، ولسائر الباحثين الذين يتطلّعون إلى الإحاطة السريعة بما ورد في القرآن حول مِحورٍ ما. ونجد صدىً لهذه المُقاربة، وإنْ بشكلٍ مُبسّط ومختلف، في بعض طبعات القرآن الحديثة، حيث يتمّ تلوين كلّ فقرة داخل صفحات المُصحف بلونٍ مغاير بحسب المحاور المتناولة، ممّا يجعل لكل وَحدة معنوية لونًا خاصًّا بها، يُميّزها، بصريًّا، عمّا قبلها وما بعدها.

تلاحُم الآيات حالة سياقية أشبه بالخطبة المُرسَلة

ورغم أهمية هذه المقاربة، فإنّها تنتهي لا محالة إلى تمزيق أوصال النصّ، وقَطْعه عمّا يسبقه وما يليه من المعاني، ممّا يضرب مبدأ النَّظم القرآني الذي قام عليه التفسير البيانيّ، فقد اجتهد برهان الدّين البقاعي (1406 - 1480)، وهو من متأخّري المُفسّرين، في كتابه "مصابيح الدُّرَر في تناسب آيات القرآن الكريم والسّور".

وتبعه الطاهر بن عاشور (1869 - 1973) في "التحرير والتنوير"، في إظهار مدى الترابط الوثيق بين كلّ آية وآية وتأكيد أنّ معنى كلّ واحدةٍ، بل كلّ كلمةٍ منها، لا يُفهم على الوجه الصحيح إلّا إذا اندمج في السّياق الأشمل ليس فقط للآيات السابقة واللاحقة، بل لمجموع السورة المحكومة "بِوحدة عضويّة" عميقة، تضمن تماسُكها الداخلي وتعمل في ثناياها بمثابة "والدة دلاليّة" Isotopie، التي نظّر لها السيميائي الفرنسيّ جوليان غريماس (1917 - 1992)، فهي التي تنظّم اختيارات المُعجم وجَريان التراكيب، وتوالي الصّور البلاغية، فتهب المَوضوع تلاحمَه المنشود. 

فليس المحور القرآني هو ما يرد في آية ما عن الصبر مثلًا، وإنّما في كيفيّة بنائه لهذا الموضوع داخل السّياق بأكمله. إلّا أنّ ابن عاشور، ولنزاهته الفكريّة، أقرّ بأن الرابط بين بعض الآيات غير بديهي أو منعدم، فلا يتكلّف البحث عنه بتخيّل صلات قربى مُفتَعَلة، وذلك بعد استفراغ الجهد في تجلية تلك الصلات إنْ كانت دقيقةً. 

كما تُخفي هذه النزعة، وربما دون شعور، تبنّيًا للرأي القائل إنّ الأسلوب القرآني مُشتّت، وهذا ما أثبته سائر المستشرقين، ولا يزالون، مثل ريجيس بلاشير في "مقدّمة القرآن"، وذلك لأنهم يقيسون مدى تماسُكه حسب مقولات "الخطاب" بالمعنى الحديث، بما هو نصّ مُتناسق، في حين يُناقض ذلك الطبيعة الأُولى للقرآن، ويُناكد وظيفتَه كخُطْبة تحثُّ على الخير وتحاور وجدان السامع. وقد بَرهن علماء النّظم، في لمحة ذكية، على أنّ القرآن أقرب ما يكون إلى "خُطبة" مُسترسلة، أتى فيها الرسول بأفانين الكلام، وتصرّف في موضوعاته، حسب حال مُخاطَبيه ودرجة عِلمهم ومدى تَصديقهم أو إنكارهم. 

يقيس المستشرقون تماسك القرآن بعيداً عن طبيعته الأولى

كما قد يضرب هذا التقسيم المحوري المصطنع الخصيصة السياقيّة للقرآن، وهي تطرّقه للأغراض بحسب أسباب النزول والوضع التلفّظي الذي أحاط بتبليغه؛ بل قد يشكّل ضربًا من الإسقاط البَعديّ، من حيث إن بعض الموضوعات نُحتت في القرون الموالية لنزول القرآن، واكتسبت مضامين عقديّة وفقهيّة متطوّرة، في حين كانت الآيات المُلحقة بهذه المضامين مجرّد إجابات آنيّة عن وضعيّات دقيقة، طُرحت على معاصري النبي في مكةَ والمدينة، فلا يمكن أن تُفهم إلا داخل هذا السّياق القيمي والإناسي الدّقيق. وكلّ استعادة بعديّة، إثر تبلور عقائد الإسلام وتشريعاته، ضربٌ من التعسّف في الفهم. 

ولا يخفى أنّ رغبة التقسيم هذه متجذّرة في الذّهن البشري، إذ يسعى عبرها إلى تفكيك أيّ موضوعٍ إلى مكوّناته البسيطة من أجل تيسير دراسته فالسّيطرة عليه، وهذا هو مسار العقل والسلطة معًا في نشاطهما، كلٌّ بطريقته، لإخضاع الموضوع إلى سيف التصنيف والتبويب والتحليل لتسهيل الهيمنة، وهو ما لا يمكن أن ينطبق على كلام الله المتعالي بطبيعته على كلّ حصرٍ. 

ولا ننسى أنّ فكرة وحدة الموضوع والبناء المنطقيّ للخطاب وترتيب الأفكار فيه، ضمن تسلسل عِلّي (causal)، أو زمنيّ
هي من نتائج فلسفة الأنوار وبزوغ خطابات "المَنهج"، بعد اختراع المَطبعة وهيمنة المكتوب وانحسار المعرفة الشفويّة القائمة على الإملاء والجَدل الخَطابيّ، والاستطراد وتنويع المعاني حسب نشاط السامع، ولذلك يعدّ الاستناد إلى هذا المبدأ، في قراءة النصّ القرآني، إسقاطًا ذهنيًّا خطيرًا، يُشبه البحث عن التماسُك المنطقي في أعمال أدبيّة مثل الإلياذة والأوديسة، صيغت بدءًا في شكل ملحميّ غنائيّ. 

تبنّت النزعة الموضوعاتية القول بأن أسلوب القرآن "مُشتّت"

وقد تسبّب إنكار هذه الخصيصة البنيويّة في اتهامات مغلوطة، أطلقها جزافًا أصحاب الدّراسات القرآنيّة المعاصرون، مثل باحثِي "الجمعيّة الدولية للدراسات القرآنية" (IQSA) التي يديرُها غبريال أرنولدز، حيث رمَوا النصّ القرآني بالتفكّك واستنتجوا أنه حُرّر بعد أكثر من قرنٍ من ظهوره، وأنَّ أياديَ كثيرة أنجزت ذلك "التحرير"، فتسبّبت في هذا الاضطراب الظاهر والتناقضات اللافتة. 

ومع ذلك، يظلّ التقسيم الموضوعي للقرآن جهدًا تأويليًّا، مثل غيره من الجهود المُندرجة ضمن مسارات القراءة المُمكنة التي تسمح بولوج الكون القرآني الفسيح. وكسائر المسارات الأُخرى، لهذا التقسيم مزايا وحدودٌ ورهاناتٌ. إذ لعلّ التشابك الذي بُني عليه "الكتاب" مقصودٌ لذاته، والانتقال فيه من فكرة إلى فكرة، عبر مبدأ الآية التي ليست هي بجُملة ولا بفكرة، هما من مظاهر التحدّي الذي وُوجِه به عرب الجزيرة ومَن بعدهم، فلم يأتوا بمثله رغم توفّر الدواعي لذلك. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون