منذ 2011، عرفت حركة النشر في تونس تنشّطاً مع انتهاء زمن القبضة البوليسية التي كانت تُخضع الكثير من الكتب إلى مقص الرقابة أو تمنعها من الوصول إلى القرّاء. ضمن هذه الموجة، ظهرت مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تناولت تجربة اليسار التونسي باعتباره تياراً واجه السلطة باستمرار منذ الاستقلال، ومن ذلك أعمال الكاتب الراحل جيلبار نقاش، ومحمد الهاشمي الطرودي، والصافي سعيد، وتوفيق بن بريك، وحمة الهمامي، وعبد الجليل بوقرة وغيرهم.
منذ أيام، صدر عمل جديد في هذا السياق بالتزامن مع إحياء الذكرى العاشرة للثورة التونسية. العمل من تأليف أحد قيادات اليسار التونسي، محمد الكيلاني، وهو بعنوان "التاريخ المنسي، مذكرات مناضل وطني"، وقد صدر عن منشورات "كلمات عابرة" بدعم من مؤسسة "روزا لوكسمبرغ" الألمانية.
قدّم الكتاب فتحي بن الحاج يحيى، وهو وجه آخر من وجوه اليسار التونسي، بأسلوب أقرب إلى الشهادة الشخصية، والتي تراوح بين رسم بعض ملامح الكيلاني، وتوضيح السياقات العامة لجيل من المناضلين.
يعتبر بن الحاج يحيى أن كتاب "التاريخ المنسي" يمثّل إضافة في سردية اليسار التونسي نظراً لزخم تجربة محمد الكيلاني، ومنها تجربته السجنية، من سجن "9 أفريل" إلى "سجن برج الرومي" حين تعايش المؤلف ومقدّم كتابه قرابة خمس سنوات، كما اختلطا بأبرز الفاعلين في اليسار التونسي، مثل نور الدين بن خضر، والصادق بن مهنّي، وعز الدين الحزقي، ومحمد الخنيسي، والنّوري بوزيد، وحمة الهمامي، والشريف الفرجاني.
وحول أسلوب الكيلاني ككاتب، يقول بن الحاج يحيى: "قلم لا يعترف بالتعقيدات، والمتاهات، والدّخول في أزقّة الذّهن واللّغة المفخّمة، فهي كتابة واضحة المعالم، صافية المعاني صفاء شخصية صاحبها في تواضعه عندما يحكي عن ذلك الشاب الذي دخل السياسة من باب "اقرأ وربّك الأكرم" ليجد نفسه وجهاً لوجه مع ماركس وإنغلز وهيغل ولينين وصعوبات تهجّي لغة ما كنّا لننفذ إلى معانيها لولا إسراع الرفيق العزيز ماوتسي تونغ ليرحمنا بما تيسّر من التّبسيط حتّى نفهم من الأساسي ما من شأنه أن يشدّ رباطة جأشنا ويمنحنا من القوّة والإيمان ما يشدّ الأزر ويهوّن سنوات السجن الطويلة قبل أن تفتح أمامنا مراتب أخرى في سلّم العلم والمعرفة والثقافة".
إلى جانب البعد الذاتي في الكتاب، فإن العمل يقدّم إضافة مقارنة بالأعمال الأخرى التي تناولت تاريخ اليسار التونسي، حيث أن الكيلاني يضيء "مسيرة ما تبقّى من اليسار بعد الخروج من السّجن"، وعلى مستوى آخر يروي لنا قصة تأسيس "حزب العمّال الشيوعي التونسي" والتجاذبات الفكرية داخله، وصولاً إلى الانشقاق.