البُشناق في فلسطين: من تهجير إلى تطهير عرقي

29 ديسمبر 2023
من شاطئ قيسارية في عشرينيات القرن الماضي (Getty)
+ الخط -

تمرُّ، في هذه الأيام، الذكرى المئة والأربعون لوصول مجموعة من مُهاجري البوسنة والهرسك إلى فلسطين، حيث اختاروا ما بقي من قيسارية العريقة المُطِلَّة على البحر مكاناً للاستقرار، فبنَوا فيها قرية كأنّها في البوسنة ببيوتها المتميِّزة بعمارتها، وحافظوا على تُراثهم في اللباس والطعام. واشتهروا باسم البُشناق، إلى أن جاءت بداية سنة 1948 لتجعل من قيسارية أول ضحيّة لخطّة التطهير العِرقي الصهيونية، ما جعل سكّانها يتشتّتون في البلاد العربية المُجاورة، كالأردن ولبنان وسورية، حيث لا يزال يعيش أحفادُهم الذين يحملون هذا اللقب المُشترك "البُشناق"، بينما عاد بعضهم إلى البوسنة بعد استقلالها.


التهجير الأول من البوسنة

حصلت إمبراطورية النمسا والمجر في "مؤتمر برلين" عام 1878 الذي خُصِّص لرسم خريطة جديدة للبلقان على تفويض أوروبي باحتلال ولاية البوسنة والهرسك وإدارتها، واستقلال صربيا والجبل الأسود عن الدولة العثمانية. وقد جاء الخبر كالصاعقة على الغالبية المُسلِمة للولاية، الذين عُرفوا باسم "البُشناق"، وصمّموا على الدفاع عن وطنهم بقوّة السلاح في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية، المشاركة في "مؤتمر برلين"، قد تقبّلت الواقع الجديد. وقد أدّت هذه المقاومة المُفاجئة إلى انشغال القوّات النمساوية بالقتال لمدّة شهر قبل أن تُسيطر على البلاد.

وبسبب هذا التغيّر المفاجئ للوضع الذي اعتاده المُسلمون خلال قرون، أدّت سياسات السُّلطة الجديدة، التي كانت تهدف إلى "أَوْرَبة" البوسنة، تمهيداً لضمِّها إلى إمبراطورية النمسا والمجر (وهو ما حدث في عام 1908)، إلى دفع السكّان المُسلمين إلى الهجرة نحو الجنوب، أو إلى الولايات الأُخرى للدولة العثمانية. وهكذا اندفعت موجات الهجرة من البوسنة منذ نهاية صيف 1878 ليستقرّ بعضُها في الولايات المُجاورة، مثل ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا وغيرها، أو الوسطى كالأناضول، وحتى الجنوبية كبلاد الشام التي وصلت إليها آخر الموجات خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر.

شعبٌ وقع ضحيّة للتهجير الصهيوني ثم الإبادة الصربية

كان ضمن هذه الموجة الأخيرة حوالى مئة عائلة من غرب البوسنة، من الهرسك المُطلّة على البحر الأدرياتيكي، تابعت طريقها الطويل عبر البلقان والأناضول وبلاد الشام، حتى وصلت إلى دمشق، ثم تابعت طريقها نحو فلسطين حتى استقرّت في قيسارية العريقة التي كانت قد تحوّلت إلى أنقاض بعد هدم المماليك لأسوارها بعد استردادها من الصليبيّين. ويبدو أن البشناق، كما أصبحوا يُعرفون في فلسطين، قد رأوا في الموقع المُطلِّ على البحر ما يذكّرهم بموطنهم الأصلي، وأقبلوا بحماسة على بناء قرية جديدة بطراز جديد من البيوت غير مألوف في المنطقة التي كانت تتألّف من طابقين مع نوافذ وحديقة محيطة. وفي هذا السياق حافظوا أيضاً على عاداتهم وتقاليدهم في اللباس والطعام، ومن ذلك غطاء الرأس المُميّز للمرأة الذي دخل منه في اللهجة الفلسطينية فعلُ "تبَشْنَقت"، أي وضعت غطاء الرأس قبل خروجها من البيت.


التهجير الثاني: النكبة

عُرف البشناق بحبِّهم للعمل، فاشتغلوا في زراعة الأرض والتجارة، ونمت البلدة بسُرعة من الناحية العمرانية والسكانية حتى زاد عددُ السكان من 346 نسمة في 1922 إلى 1500 نسمة في 1948، الذين تنوّعوا أكثر مع استقرار العرب وبعض المستوطنين اليهود في جوارها. ويبدو أنّ موقع هذه البلدة على الطريق الساحلي بين حيفا ويافا (وحيّ تل أبيب في قلب يافا) جعلها تدخل ضمن أجندة المنظّمات العسكرية الصهيونية في وقت مُبكّر بعد صدور "قرار تقسيم فلسطين" في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. وفي الواقع، كان بن غوريون قد قرّر في بداية شباط/ فبراير 1948 توسيع "المجلس الاستشاري" ليضمّ المنظّمات الصهيونية المسؤولة عن تجنيد المقاتلين وتأمين الأسلحة. وفي هذا المجلس، كما يذكر المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين"، طُرح لأول مرّة التصوّر الصهيوني لـ"اجتياح عميق للأراضي الفلسطينية"، يؤدّي إلى طرد السكان منها. وفي 5 شباط/ فبراير 1948 صدر الأمر بتنفيذ هذا المُخطّط على ثلاث قرى من بينها قيسارية لكونها "غنيمة" سهلة، بسبب عدم وجود قوّة دفاع محلّية أو عربية ("جيش الإنقاذ") فيها، وتضمّن الأمر "احتلالها وطرد سكانها وتدميرها".

كانت قيسارية أول قرية في فلسطين ضحية لهذا "المخطّط" الجديد في 15 شباط/ فبراير 1948، وقد حصل ذلك خلال النهار تحت نظر القوّة البريطانية الموجودة في مخفر قريب منها. ونتيجة لذلك، أُرغم سكّانها على "التنكُّب"، وتوزّعوا نحو البلاد العربية المجاورة، حيث برزت منهم، لاحقاً، شخصيّات معروفة في الكفاح الفلسطيني مثل عبد الرحمن بشناق (1913 - 1999).


التهجير الثالث: التطهير العِرقي

مع دستور 1974 برزت يوغسلافيا جديدة بعد التخلّص من "مراكز القوى" في 1966، والتي كانت وراء تهجير المُسلمين من يوغسلافيا إلى تركيا، ليبرز الآن العامل البُشناقي مع اختيار جمال بيديتش رئيساً للحكومة (1971 - 1977)، الذي كان أول بُشناقي يتولّى مثل هذا المنصب منذ تأسيس يوغسلافيا في 1918. ومع هذا الانعطاف برز الوجود البُشناقي الجديد في البلاد العربية من خلال سفارات يوغسلافيا وشركات البناء والطلّاب، ومنهم نصرت سفيروفيتش، سفير يوغسلافيا في لبنان والأردن والمغرب وغيرها، التي اهتمّت ابنتُه نينا سفيروفيتش بتاريخ هجرة البشناق إلى فلسطين، ونشرت عنهم دراستها الرائدة في بلغراد 1981، وهي الدراسة التي نشرتها مجلة "دراسات فلسطينية" بالإنكليزية في 2015 دون تعريف كافٍ بالمؤلّفة.

كانت نينا سفيروفيتش (1947 - 1991) من الجيل اليوغسلافي الذي نشأ ضمن يوغسلافيا التيتوية التي انفتحت بقوّة على العالم العربي بعد قطعها لعلاقتها الدبلوماسية مع "إسرائيل" عام 1967، في الوقت الذي كانت فيه جمهورية البوسنة تبرز بقوّة في الاقتصاد والسياسة والثقافة، وتتواصل مع الشتات البُشناقي في الخارج. ولكن بعد وفاة تيتو عام 1980 بدأت موجة مُعاكسة مع بروز سلوبودان ميلوشيفيتش في 1987، على رأس الحزب الشيوعي في جمهورية صربيا الذي انتهج سياسة قومية تُنادي باستعادة صربيا لسيطرتها على المكوّنات الفيدرالية المجاورة (كوسوفو وفويفودينا والجبل الأسود والبوسنة)، بما عُرف بـ"صربيا الكبرى". ولكن هذه السياسة المُغامرة لاقت من يُعارضها من المثقّفين، ومنهم نينا سفيروفيتش التي كانت تعمل في "معهد الدراسات البلقانية" آنذاك، ونالت من جراء ذلك التضييق عليها، إلى أن رحلت واعتُبرت "من أوائل ضحايا ميلوشيفيتش".

هجّر الصهاينة بُشناقَ قيسارية قبل النكبة بثلاثة أشهر

أثارت دعوة ميلوشيفيتش إلى "صربيا الكبرى" مخاوف الجمهوريات المجاورة (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة) التي أعلنت استقلالها تباعاً لتبدأ بذلك حروب يوغسلافيا التي استمرّت حتى 1999. في هذا السياق، كانت البوسنة قد أجرت الاستفتاء على الاستقلال في 29 شباط/ فبراير 1992، وأعلنت الاستقلال في 3 آذار/ مارس، لتصبح الميدان الأشهر لـ"التطهير العرقي" على يد القوّات الصربية، الذي وصل إلى ذروته في "مجزرة سربرنيتسا" في تموز/ يوليو 1995. وكان من المصادفات أن بعض البُشناق الذين نجَوا من هذا التطهير العِرقي وصلوا إلى الأردنّ، ليتواصلوا هناك مع أولاد وأحفاد البُشناق الذين نجوا من التطهير العِرقي في فلسطين عام 1948.


"الأب الروحي" للتطهير العِرقي في البوسنة

مع بداية الحرب على غزة، كان من الطبيعي أن يتفاعل البُشناق ويعبِّروا في الصحافة وفي الشوارع عن إدانتهم للقصف الإسرائيلي العنيف وتعاطفهم مع الشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق جاءت صدمة الصورة التي نُشرت للسفير الفلسطيني الجديد في بلغراد محمد النمورة مع فويسلاف شيشل، رئيس "الحزب الراديكالي الصربي"، المتّهم بجرائم حرب، والذي يُعتبر "الأب الروحي" للتطهير العِرقي في البوسنة. وكان ممّا أثار استهجان البُشناق في الصورة، هو "الشال" الفلسطيني الذي غطّى به شيشل جسمه والعناق الحارّ مع السفير الفلسطيني.

أما البيان الرسمي الصادر عن "الحزب الراديكالي الصربي"، الذي نشرته الجريدة البوسنية المعروفة "دنفني أفاز" مع الصورة في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، فقد جاء فيه: "إن الشعب الصربي باعتباره أوّل ضحيّة أوروبية للإمبريالية الأميركية، يحمل واجباً أخلاقياً لرفع صوته ومعارضته للاضطهاد غير المسبوق ضدّ الشعب الفلسطيني، الذي تقف خلفه الولايات المتّحدة الأميركية. وقد عبّر الجانبان عن إدانة الجرائم التي ترتكبها 'إسرائيل' بموافقة الولايات المتّحدة الأميركية منذ أكثر من شهر على الشعب الفلسطيني الساعي إلى الحرّية".

كان من الأفضل بالطبع أن يصدر هذا البيان عن أيّ حزب آخر في صربيا.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

كتب
التحديثات الحية
المساهمون