الباب العالي الغربي وموت الإرادة السياسية العربية

12 فبراير 2024
من مظاهرة مؤيّدة لفلسطين أمام سفارة الاحتلال في طوكيو، 11 شباط/ فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

في ضوء العدوان الإسرائيلي المشحون عنصريّاً، الذي يُشنّ على غزّة، ويستهدف المدنيّين بشكلٍ مباشر على مرأى ومسمع من الناس في العالم كلّه، دون أيّ تدخّلٍ عربيٍّ رسميٍّ فاعل لإيقاف القتل اليومي، يبدو العالم العربي، على المستوى الرسمي، مُفرَغاً من الإرادة السياسة، أي لا توجد سياسات عربية رسميّة مؤثّرة في سياق الأحداث، لا على المستوى المحلي ولا على المستوى العالمي.

ويبدو، في ظلّ هذا الفراغ المتواصل لعقود، كأنَّ الناس في غزّة ينتمون إلى قوميّة أخرى، أجنبيّة، ولا توجد روابط مع سكّانها، وكأنَّ بلاغة النضال التي ترعرعنا عليها في المدارس، وشعر المقاومة الحماسي الذي ضجّت به منابرنا وصُحفنا ومجلّاتنا وإذاعاتنا وفضائيّاتنا، وحماس العمل النضالي الذي ضجّت به مقاهينا والزبد البلاغي كلّه من المحيط إلى الخليج، تبخّر من الوجود.

ويبدو أنّ اللغة العربية، رغم تاريخها الطويل، لم تعُد رابطاً مشتركاً، بل برهنت الشعوب الغربية، رغم أنظمتها الاستعمارية، أنّها تجاوزتنا في التعبير عن إدانتها للعدوان، فخرج مواطنوها إلى الشوارع بالآلاف، وتحرّكت جامعات غربية عريقة لإعلان تضامنها ورفضها للعدوان، بينما بقيت الجامعات العربية مُصمتة، أو من أجل توخي الدقّة، لا تمتلك تُراثاً احتجاجياً، ومضبوطة أمنياً بينما الشارع العربي لا يزال مغلقاً ولا يُفتح إلّا بإذن رسمي.

كأنّ حماسة النضال التي نشأنا عليها تبخرت من الوجود

وفي الوقت الذي تعصف فيه أحداثٌ كبرى بالعالم العربي تهدّد بتغيير خريطته ووجود سكّانه، نجد أنَّ السياسات العربية ظاهرة فائضة عن الحاجة، ذلك أنّ أي مؤرّخ لتاريخ السياسة الرسمية العربية الحديثة في العقود الأخيرة لن يسجّل لها أي انتصار نوعيّ على صعيد التأثير في الأحداث الإقليمية أو الدولية.

وتتكشّف مهزلة السياسات العربية على أكمل وجه في انعدام دورها أو وزنها الإقليمي والدولي، ففي الأحداث الكبرى والحروب لا أحدَ يسأل العرب عن رأيهم، حتّى حول ما يجري في منطقتهم، بل يأتي مبعوثون ينقلون إليهم أوامر الباب العالي الغربي، ويحجّمونهم في دور الوسيط، حتى ولو كانت أراضيهم مسرحاً لهذه الأحداث، فيما يستطيع الطيران الحربي الإسرائيلي، إن شاء، أن يخترق الأجواء العربية كلّها، دون أن تمتلك أيّة دولة عربية مقدرة عسكرية تكنولوجية من ابتكارها الخاصّ على إسقاط طائرة له. وما اختراق الأجواء اللبنانية والسورية المنتظم إلّا رسالة للعرب أجمعين بأنّ أجواء "الشرق الأوسط"، وليس الوطن العربي فحسب، عليها ختم نجمة داود.

ورغم تردّي الأوضاع والأخطار المُحدقة بالأمن الوجودي (لن أقول القومي) العربي، فإنّ هذا لا يدقّ أي ناقوس خطر بالنسبة إلى السياسيّين العرب الذين يرى بعضهم أنّ التحالف مع "إسرائيل" ضمان لمستقبلهم أو يشكّل حمايةً لهم من خطر لا يكفّون عن تضخيمه لصرف الأنظار عن استئثارهم بالكراسي والثروات.

تتكشّف مهزلة السياسات العربية على أكمل وجه في انعدام دورها أو وزنها الإقليمي والدولي

على شاشة ما يحدث في أوكرانيا، وفي أمكنة أُخرى من العالم، نشهد استمرارية استعراض العضلات النووية، والتهديدات والمناورات التي تثير مخاوف من حربٍ كونيّة جديدة، فيما تتبارى وسائل الإعلام في الحديث عن أسلحة نهاية العالم، بدءاً من الغوّاصات وانتهاء بالصواريخ الخارقة لسرعة الصوت والطائرات المسيَّرة بمختلف أنواعها.

ومنذ أن بدأ الإعلام مؤخّراً بإلقاء الضوء على أنواع هذه الأسلحة ونشر سيناريوهات عن الضربات النووية المحتملة، عدنا إلى السؤال الذي طُرح سابقاً: هل يمكن أن تُستخدم هذه الأسلحة؟ إنّ الجواب عن هذا السؤال واضح في ضوء ما حدث في التاريخ الحديث، وتكرار السيناريو ليس بالأمر المستبعد حالياً.

أمّا في منطقتنا، فيتواصل تدهور الوضع وتغيّب الدول العربية كمُنتِج عن ساحة أسلحة الدمار الشامل، وتحضر كمستهلك لأسلحة بعينها يُسمح ببيعها، وضمن شروط، وذلك مراعاة لطلب "إسرائيل" بأن يكون تسليح الدول العربية دوماً أدنى من المطلوب، كي تظلّ كالخراف في حظيرتها.

إنّ العالم العربي، في ضوء ما يحدث في العالم، لا وجود له إلّا كساحة للقوى الكبرى لاستعراض مقدراتها ونفوذها ولنهب الموارد دون أيّ اكتراث بشعوب المنطقة.

يقف العالَم على عتبة تحدّيات جديدة ومُخيفة؛ فالموارد تضمحلّ وملامح الجوع ترتسم على الوجوه، وصارت قوارب المهاجرين التي تغرق في المتوسّط لطخة عار على جبين البشرية. وفي عالم عربي يمتلك من الثروات ما يجعل لعاب أيّ دولة غربيّة يسيل، نرى بأمِّ العين كيف تُهدَر هذه الموارد في تمويل حروب عبثيّة، وفي تدمير بلدان بأكملها وفي تشكيل جيوش ومليشيات تنتمي إلى العهد القديم وظلمات القرون الوسطى.

إنّها فعلاً لمأساة مكتملة الأبعاد، حيث لا يُعقل أنّ هذه المنطقة الهائلة بتنوّعها الجغرافي والطبيعي وغناها وثرواتها الباطنية الهائلة، وأراضيها الزراعية الشاسعة، وتاريخها العريق وتراثها الديني والمعماري، وعمقها الضارب في الحضارات القديمة ومدنها التي كانت أوّل مدن مسكونة في المعمورة، والتي أنتجت علماء وفلاسفة وشعراء كباراً تزهو بهم الأمم ومليئة بأفراد أفذاذ عباقرة في المجالات كلّها، لا يُعقل أن تُختزل إلى أراضٍ محاصرة مغلقة متخلّفة يعيش فيها المواطن أردأ وأفقر حياة في العالم.

صار المواطن العربي يحلم بالهجرة إلى أيّ مكان، ويخضع لسياسات قمعية تتعامل معه كرقم استهلاكي أو أمني أو طائفي أو فائض عن الحاجة أو أداة تُوظَّف لتمكين واقع الخضوع والتردّي، فيما تبدو بعض الدول العربية الغنية كقصور محاطة بأحياء صفيح الدول الأخرى على الخريطة العربية.

ورغم الأراضي الزراعية والثروات الباطنية والطاقات البشرية صارت الدول العربية كلّها، خارج الإطار النفطي، مَدينةً والديون ما زالت تتضخّم، حتى إنّ بعضها يتسوّل القمح كي يصنع رغيفه، وبرميل النفط كي يسيّر آلاته المستوردة، وهناك دول عاجزة الآن عن تأمين الطاقة لسكّانها وتتركهم في عراء البرد وظلمة الليل يعتمدون على حلول شخصية بحتة وعلى المهرّبين والسوق السوداء إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي دول عربية أُخرى تمّ السطو على أرصدة الناس في البنوك.

ورغم الفقر وتخلّف التعليم وتدهور المؤسّسات، نرى الأموال العربية كلّها تذهب لشراء الأسلحة، لا من أجل حماية الأرض، أو لنصرة قضية فلسطين، وتمكين الدولة، وفرض هيبتها إقليمياً ودولياً، بل من أجل الفتك بالخصوم وحراسة الكراسي وضمان وراثتها، فيما المواطن العربي، سواء في غزّة أو في غيرها، هو آخر ما يمكن أن يُفكَّر فيه، ويُترك لمصيره تحت القنابل أو في خيام اللجوء أو مخيّمات الحدود، أو في قوارب الموت التي تعبر المتوسّط.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

موقف
التحديثات الحية
المساهمون