أوّلُ ما فكّرتُ فيه وأنا أقرأ عن إصدار نسخة صوتية من رواية "رام الله" لعبّاد يحيى، هو مدى الوقت والجهد الذي يتطلّبه تسجيل عمل روائيٍّ يتجاوز عددُ صفحاته سبعمئة وثلاثين صفحة.
على منصّة "صوت"، التي أنتجَت النسخة الصوتية ونشرَتها خلال العام الجاري، كان ثمّةَ ما يزيد عن عشرين ساعةً ونصف، موزَّعة على ستّة فصول بصوت الكاتب نفسه. هذا هو الوقت الذي يستغرقه المستمع لإكمال الرواية. أمّا ما استغرقه تسجيلُها وإخراجها، فالمؤكَّد أنّه أضعافُ ذلك.
ينمّ هذا عن جدّية واجتهاد لافتَين، هُما في صميم مشروع عبّاد يحيى الروائي منذ عمله الأوّل "رام الله الشقراء"، الصادر قبل عشر سنوات. ولعلّ ما يدفع كاتباً إلى بذل جهد إضافيّ على جهد الكتابة (جرت العادة تسجيل الكتب الصوتية بالاستعانة بمعلّقين أو ممثّلين) ليس فقط السعي إلى القارئ الذي هو "ضالّة الكاتب أنّى وجده فهو أحقّ الناس به"، وإنّما هذه الرغبةُ في منح الرواية صوتاً؛ بالمعنى الفيزيائي، ومنحِ هذا الصوت معنىً.
صار لـ"رام الله" الروايةِ صوت. فماذا عن صوتِ رام الله المدينة؟
"لرام الله صوتٌ" يقول يحيى، في مقدّمة جميلة للنسخة الصوتية، إنّه كان من أسباب كتابة الرواية. أمّا كيف حدَّده، فيُخبرنا أنّ ذلك كان عبْر فقرة من كتابٍ للمؤرّخ البريطاني فيليب مانسيل يتحدّث فيها عن "صوت الطَّرْق الرهيب على الخشب لصناعة براميل التين المجفَّف" الذي كان، في قرون ماضية، يتردَّد في أرجاء مدينة إزمير فيجيب صداه في البحر. يقول مانسيل إنّ إزمير انبنَت على التين المجفَّف، وإنّ صوت الطَّرْق لصناعة براميل الخشب كان صوتَها.
بناءً على ذلك، يسأل عبّاد يحيى: ما هو صوت رام الله اليوم؟ ويجيب: "في السنوات العشر الأخيرة، بدّلتُ سكني في رام الله مرّات عديدة. وأهمُّ سبب لمغادرة شقّة أو بيت إلى غيره كان صوت الحفّارات الآلية وهي تدقّ الصخر وتخرق الأرض لتشييد بنايات جديدة. صوت الحَفْر الآلي هذا ظلَّ يلاحقني وأهرب منه. وفي الصيف ينشط الحفر والبناء. وفي سنوات ما بعد الانتفاضة الثانية، كان هذا الصوت هو خلفية العيش في رام الله. أيقنتُ أنّ هذا الصوت هو صوتُ رام الله. وبدل أن أهرب منه، صار محلَّ تفكير مستمرّ. هذا الصوت يعني أنّ ماضياً يُنقَض ويطلع مكانَه جديد".
يطرح يحيى سؤالاً آخر: هل هذا الصوت، في منطق التاريخ، صوت هدم أم صوت بناء؟ ثمّ يضيف بأنَّ الرواية هي محاولة للإجابة؛ فـ"الصوت المزعج الذي هربتُ منه طويلاً صار حافزاً يُذكّرني بالسؤالِ وبالرواية. صار الصوتُ دافعاً للكتابة".
وقبل أنْ نستمع إلى صوت "رام الله"، الروايةِ والمدينة، سيُنبّهنا عبّاد يحيى إلى أنّ ثمّة قراءةً جديدة للرواية لا تتبدّى لمؤلّفها إلّا حين يُسجّل؛ إذ يلاحِظ الكثيرَ على مستويات اللغة، ولازمات الكلام، وإيقاع الجمل، وأنماط الفقرات، وتبايُن لغة الشخصيات، وتقطيع النص ونقلاته، والأسلوب، ثمّ يُقيّم كلّ ذلك في ضوء التسجيل وسماعه. وهذه التجربة، التي بدت مرهقة وممتعة ومفيدةً في آن، ستجعله يُقرّر تسجيل أيّة رواية قادمة قبل نشْرها في كتاب ورقي.
* كاتب من الجزائر