قد تكون المعلومة الأولى التي تعلّمناها عن الكتابة أنّها ظهرت في حضارة ما بين النهرين على ألواح طينيّة راح الإنسان الأول يفك شيفرتها ورموزها. يسعى اللغويون اليوم إلى تعقيد هذه الرؤية الأولية، وجعلنا نرى أن أصول نظام التواصل الجوهري لدينا لم يكن موجوداً في حضارة ما بين النهرين فحسب، بل في الصين ومصر وأميركا الوسطى ومناطق أُخرى، حيث وُلدت نصوص مستقلّة تماماً من الكتابة المسمارية.
هذه الحقائق والمعلومات وغيرها حول أنظمة الكتابة المتنوّعة والإبداعية لدى الإنسان، يُمكن قراءتها في كتاب "الاختراع الكبير" الصادر عن دار "فيلترينلي" الإيطالية لمؤلّفته الكاتبة الإيطالية وأستاذة علم الآثار في "جامعة بولونيا"، سيلفيا فيريرا.
تُقارب الكاتبة في صفحات عملها واحداً من أكثر ألغاز الإنسانية تعقيداً: ولادة الكتابة الذي لا يزال يكتنفها بعضُ الغموض؛ هذا الاختراع الذي ظهر في أماكنَ وأزمنة مُختلفة، بشكل مُستقلٍّ، والذي يصعب على المرء تصوُّر بدايته من الصفر.
كما تتساءل الباحثة عن كيفية نشوء هذه الثورة، وعن الدافع إلى جعل الإنسان يُصمّم على الكتابة، ولمساعدتنا للكشف عن الأجوبة، ترشدنا في رحلة تبدأ من الكتابات المقدّسة التي، وعلى حدّ تعبيرها، "ظهرت من العدم"، وصولاً إلى نقوش الألواح الكريتيّة وإشارات ورموز وتماثيل جزيرة القيامة في جنوب تشيلي، أو الصين، أو المكسيك، أو بلاد ما بين النهرين.
ولا تتوقف فيريرا عند هذا الحدّ، بل إنها تغوص في أغوار الجزر والإمبراطوريات والمدن العظيمة، وتتناول التجارب التي قام بها الإنسان في الكتابة، مُسلّطةً الضوء على الاختراعات الفردية وعلى أنظمة الكتابة غير المفكّكة إلى يومنا هذا، خصوصاً في جزيرة إيستر، ووادي السند، و"مخطوطة فوينيتش"، و"مخطوطة الإنكا كيبو" الغامضة، و"قرص فايستوس"، وغيرها الكثير.
وتخلص إلى نتيجة أن الكتابة لم تولد من الاحتياجات العلمية فحسب، بل كانت أيضاً ثمرة احتياجات تعبيرية، حيث تقول "إن الفن يعمل كمنصة انطلاق للكتابة أيضاً".
يدعونا الكتاب إلى التفكير في القدرة التي يملكها الكائن الإنساني على التواصل، والتي تمتدّ من النقوش الصخرية إلى المسار غير المتوقّع لكتابة المستقبل.