يضغط سؤال التقنية، اليوم، على الكثير من موضوعات الفلسفة، أو الحقول التي خبِرتها، وقدّمت بصددها المعالجات والأطروحات. ومن بين هذه الموضوعات ثنائية الجسد والعقل، التي لم تكفَّ عن أن تكون مبحثاً واسعاً يشمل أسئلة عديدة كالأخلاق والرغبة والوجود.
ومنذ الثورة الصناعية وفكرة الآليّة (أو التحوّل ممّا هو بشري إلى تسيُّد الآلة مشهد الإنتاج)، تشغل العديد من النظريات، ثم جاءت الثورة التقنية التي نعيشها، لتعزّز هذا الواقع من خلال "السبرنة" (التحكّم الذاتي).
"الإنسان الرقمي والحضارة القادمة" عنوان كتاب الباحث الفرنسي دانيال كوهين (1953)، الصادرة ترجمته حديثاً عن دار "صفحة سبعة"، بتوقيع المُترجِم علي يوسف أسعد. إذ يحاول العمل تقديم تصوّر عن موقع الإنسان المعاصر، ضمن خريطة الأسئلة السابقة.
إذا كان الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكّر، إذاً أنا موجود"، قد انتصر للعقل في تلك الترسيمة، على حساب الجسد. فإنّ هذا الكتاب يُقدّم مرافعةً مقابِلة لذلك، ولا يعني هذا أنه قلَب المعادلة، وانتصر للجسد وكفى، بل اعتمد على مبدأ أكثر كُلّية، مرتكزاً على ما وضعه الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا، الذي عاش في القرن السابع عشر، حول الرغبة، حيث يشكّل الجسد والعقل وحدة غير قابلة للتجزئة.
كما يشرح الكتاب الارتباط الوثيق بين الجسد والعقل، الذي من خلاله يتبيّن لنا الفرق بين الإنسان والآلة، وأنّ على الجسد وحده "تُنقش العواطف والدوافع والذاكرة الطويلة المدى"؛ بالتالي فإنّ هذا ما يُعطي وجودنا معناه ويحدّد كياننا كبشر.
للوهلة الأولى، يبدو أنّ هكذا أفكار تنطق بها الفلسفة بمعزل عن العِلم، لكن سرعان ما تأتي حُجج علم الأحياء لتؤكّد أنَّ العواطف هي آليات منظّمة، إذ يُذكّرنا الحزن بقيمة الحياة، وينبّهنا الخوف بوجود الخطر.
يجتمع في أعمال دانيال كوهين تحليلُ تحوّلات الرأسمالية المعاصرة من جوانب مختلفة تاريخية واقتصادية، ومن أبرز كتبه في هذا السياق: "ثروة العالم، فقر الأُمم" (1997)، و"العولمة وأعداؤها" (2004)، و"ثلاثة دروس في المجتمع ما بعد الصناعي" (2009).