على سطح القصر الذي بناه فخر الدين المعني الثاني، أوائل القرن السابع عشر، في بلدة دير القمر اللبنانية وسط جبال الشوف، وقَع اختيار "مسرح كون"، لتقديم العرض الموسيقي الأدائي "الأشجار ترقص أحياناً"، مساءَ الأربعاء الماضي، السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر. لا خشبة ولا جدران ولا سطح، بل مُباشرة واقتراب من جمهورٍ محلّي، ولو أنّ العمل بارتجالاته وإطاره العامّ ظلّ مُحافظاً على ترميزه، فالكلام مُقتضَب وعند الضرورة، والأولوية للموسيقى والأداء.
بدأ العرض، الذي أخرجه السوري أسامة حلال، واشترك فيه مؤدّون ومؤدّيات من لبنان وسورية، هُم: مكسيم أبو دياب، ورومي ملحم، وأبيغيل كارول، وحسام دلّال، وضياء حمزة، بمشهدٍ أوّل، إن جاز التعبير، لا يخلو من الفرح. غناءٌ وموسيقى خفيفة يؤدّيها أعضاء الفرقة وهُم يرتدون ملابس العزل البيضاء التي درجت في سياقات طبّية إبّان انتشار جائحة كورونا.
مقاربة بيئية تُقاطِع بين قضايا اللجوء والانهيار الاقتصادي
بعدها يطغى "ماكس الساحر" بحضوره، يلعب بالجميع ومع الجميع، وإنْ كان لَعِبُه مجرّد قناعٍ للعُنف الذي يُمارسُه ضدَّ الآخرين "المُعجَبِين" بخفَّة دَمِه، التي هي الوجه الآخر لثقل سُلطته الأبوية عليهم. لكن إلى أيّ حدٍّ يُمكن تشبيه هذا الحضور السحري لسُلطة ماكس، بسُلطة عنيفة حاضرة حقّاً في واقع لبنان وسوريّة السياسي؟
حول هذا السؤال، تحدّث مكسيم أبو دياب إلى "العربي الجديد" قائلاً: "لا تخلو الشخصية التي أدّيتها من استغلالها المُفرِط لهذا المزيج بين الأبويّة والسحر، ماكس يسحر مَن حوله من الجمهور أو الشعب، وعلاقته معهم تُراوح بين التماهي للحظة أُولى، ومن ثمّ الانقلاب عليهم. فبكُلّ مشهد تراه يريد أن يتدخّل بالتفاصيل".
"الأشجار ترقص أحياناً" (60 دقيقة)، ليست استعارة مجازِيّة فقط، بل هَمٌّ بيئيّ أيضاً. فكيف يُمكن أن نتحدّث عن البيئة من خلال مُقاطعَتها مع مسألة اللّاجئين السوريّين، وبحالة الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان منذ سنوات؟ هنا، أيضاً، لا كلام، بل أداءٌ وموسيقى. وتأتي الإجابة على وقع أغنية من التراث المكسيكي أدّتها أبيغيل كارول التي حاول أتباع ماكس إسكاتها وحَشْو فمها بالأحذية الملوّثة، ولكنّ المحاولات لا تُجدي نفعاً معها، فهي مُصِرَّة على الغناء، حتى مع استبدال الأحذية العاديّة ببسطار عسكري مزروعة فيه نبتة صبّار. أداءٌ عنيف تخلّل محاولات الإسكات، وهو ما صدم بعض الجمهور الذي لم تفصل بينه وبين المُؤدِّين مسافة كبيرة.
مع المشهد الثالث اتّضح الهمُّ البيئي أكثر، حيث أدّت رومي ملحم دورها كشجرة تُرَشّ وتُرَشّ بالمُبيدات، مستحضرةً في الخلفية مدينة هيروشيما اليابانية من خلال قصيدة "العمى" للشاعر الياباني شينيكشي توغي الذي رثى فيها حال المدينة بعد إلقاء القنبلة الذرّية عليها، في محاولة من القائمين على العمل للتذكير بجريمة مُستمرّة عاشتها بيروت بانفجار مرفئها في الرابع من آب/ أغسطس 2020.
الأداء العنيف يجدُ مُبرّراته في واقع الحياة التي نعيشها
المشهد الرابع والأخير قلَبَ الجوَّ رأساً على عقب، مع المُمثّل السوري حسام دلّال الذي جعل من حقيبة اللجوء صليباً أبديّاً له، يُقاوم السلطة بالمقلاع، متسائلاً ما جدوى أن ندقّ مسماراً في جدار هذا المكان الذي نزحنا إليه؟ مفردات استلّها من المسرحي والسياسي الألماني برتولد بريخت في قصيدته "تأملات في المنفى". يُقاوم دلّال أتباع ماكس الذين يقذفونه بالمُبيدات من آلاتهم، وفي ذروة مقاومته ينبثق من جسده الضعيف جبروت المسيح الفلسطيني. مشهدٌ تراجيدي عنيف ختم العمل.
في الحوار الذي تلا العرض لم يجد المُخرج أسامة حلال غضاضة في استحضار "العنف المُبالغ فيه"، حسب توصيف بعض الجمهور، وبرّر خياره برؤية بريخت للمسرح ودوره في تحطيم الواقع، مؤكّداً أنه لطّف الأمور جدّاً في "الأشجار ترقص أحياناً"، وما نعيشه يومياً من عنف يفوق ما رأيناه.
وعن مدى تصنيف هذا العرض كعمل بيئي، تحدّث حلال إلى "العربي الجديد" قائلاً: "لا مشكلة على الإطلاق في تصنيف العمل في خانة 'المسرح البيئي'، وإن كان خيارُنا كمجموعة يُفضّل عدم وضعه في صناديق مُغلقة". كما لفتَ في حديثه إلى أنّ الجولات التي قامت المجموعة بها من طرابلس، شمالي البلاد، مروراً ببرّ الياس وبعلبك وغيرها، جعلته يكتشف طبقات وشرائح متنوّعة من الجمهور، من الأطفال إلى الكبار، ومن اللّاجئين إلى ميسُوري الحال، وكلّ شريحة من هؤلاء لها تفاعلُها الخاصّ.
ووضّح حلال طريقة عمل المجموعة، ومبدأ البِناء الارتجالي الذي تقوم عليه، بالإضافة إلى دَور العازفَين خالد عمران وسماح بوالمنى في تأطير العمل موسيقياً، قائلاً: "كلّنا متورّطون في هذا العرض بالسويّة نفسها". وختم بأن عملَهم بعيد عن الرائج والتجاري والمَبالغ الطائلة التي تطلبُها المسارح عادةً. "كما ترى، هنا لا توجد كواليس ولا سقف ولا إضاءة أو عدّة صوت، نحن نعمل في ظرف هشّ، وكلّ ما نحن بحاجة إليه هو الفضاء. فما له قيمة هو أن تكون قريباً من الجمهور".