ما الذي يجمعُ بين جبران خليل جبران وعميد الأدب العربي طه حسين؟ للوهلة الأولى، تبدو الإشارة لكليهما غير موفقة؛فالرجلان امتلكا أمزجة مختلفة، الأول شاعر ذو حساسية كونيّة روحيّة عالية، والثاني مفكر يمتلك حساً نقدياً وبصيرةً تحليلية نافذة. لكن لا تغيب عمَّن قرأ لكليهما تلك الطاقة التي توحّدُ روح النصوص، وهي طاقة الحرية والإبداع والتفكير الحرّ إلى أبعد المستويات، وهذا بلا شك يعودُ للبيئات الاجتماعية والأدبية المختلفة التي نشآ فيها.
نستطيعُ أن نرى الفرق عندما نقرأ نصاً لكاتبٍ كبير مثل نجيب محفوظ الذي لم يسافر وظّلت حياته البسيطة والعظيمة تدور في فلك مصر من ناحية معرفته بالأماكن وتصويرها والعيش في دهاليز تفاصيلها، وبين كُتّاب مثل جبران خليل جبران وطه حسين اللذين سافر كلاهما إلى العالم الغربي، جبران إلى أميركا وطه حسين إلى فرنسا. كتابة المهاجرين أمثال هؤلاء لها ينابيع متعددة وفيها ثقافات كثيرة تحاورُ وتجادلُ بعضها البعض من باب معرفة النفس والآخر بصورةٍ حقيقية، أما كِتابة الكُتاَب الذين لم يسافروا فهي في الغالب تراوح مكانها، تنهلُ من نبعٍ واحد، وإن كان عميقاً ومتعدد الأصوات، مثل منبع التراث الأدبي العربي.
لا تغيبُ عنا عندما نقرأ "الأيام" تلك الأضواء المسلَّطة على ثقافتين وبيئتين مختلفتين يعيشُ بين كنفيهما الكاتب: الثقافة المصرية والعربية ببيروقراطيتها وصعوبتها؛ حيثُ يعاركُ طه حسين طواحين الهواء من أجل أن يحقق طموحه وأن يتمَّ إنصافه وصرف منحته، إلخ، والثقافة الفرنسية حيثُ انشغاله بالتفكير والبحث في جوٍ من الهدوء والسعي العلمي التحليلي الذي لا يخضع لسلطة غير تلك التي يمليها المنطق والبراهين على عقل وروح الكاتب.
تتحاور في كتابات المهاجرين منابع وثقافات متعددة
وربما في الكتاب الجوهرة أكبر إدانة للثقافة العربيَّة الرسمية من حيثُ المؤسسات التقليدية ومعاملة الدولة لرجلٍ كفيف ظهرت عبقريته وسعة بصيرته منذُ أن كان طفلاً، بينما تُفتحُ له الأبواب عندما يدرسُ في باريس وفرنسا بشكلٍ عام، فتجدهُ كزهرة بورقات باطنية جميلة، تتفتحُ شيئاً فشيئاً، فتُحقق ذاتها وتزدهرُ ازدهاراً لا حدود له. ويشعرُ المرء بالسعادة حين يصف طه حسين وقته في أوروبا وأسفاره بين إيطاليا وفرنسا، وحين تقبلُ - سوزانا الفرنسية التي ستصبحُ عينيه فيما بعد - الزواجِ منه، تشعرُ وكأنّه قد وصل إلى برِّ الأمان بعد تعبٍ وشقاء، فقد ظفرَ بالحبّ والعلم معاً، وحلّقَ عالياً في سماء الثقافة العربية ليكونَ أبرز أعلامها. والمهم أنّه تحرّرَ من جبروت القهر والظلم الذي صاحبه خلال سنوات تعليمه المتسلط في بلاده الأصليّة، وتحرّرت كتابته من التقوقع في المحليّة المفرطة وطاعة التراث العمياء.
أمّا جبران فمن لا يستطيع أن يلامس الحسّ الكوني الرهيف في كتاباته ونداءاته المتكرّرة لما يسميه "الشرق" ليصحو من سباته نحو تحرّر الثقافة من السلطات السياسية والغوغائية، مضيئاً كتاباته بروح التراث العربي من جهة وبعض الأفكار العالميّة المستنيرة من جهة أُخرى.
إذن، هل نستطيع أن نتخيل جبران أو طه حسين بدون التراث الثقافي الغربي؛ حيث عاش في كنفهِ كلّ من الكاتبين؟ يصعبُ ذلك. ولن نبالغ لو قلنا إنّه من الصعب تخيّل الأدب العربي الحديث من دون التراث الأدبي الغربي، خصوصاً الحديث منه، وذلك يحتاج إلى تفصيل قد نعود إليه في مقالة لاحقة.
لقد طبعت هذه البلدان كتابات هؤلاء المفكرين الكونيّين، وإن بقي العالم العربي والمشرق سراجاً ينير دروبهما في الغرب، وبقي طبعاً ولاؤهما وحبّهما الصادق لبلادهما الأصليّة والثقافة العربية بشكلٍ عام. أما الكتّاب العرب الذين لم يسافروا، وإن أبدع بعضهم أيما إبداع، فتبقى نصوصهم داخل إطارات محدودة، تنقصها التجربة الكونيّة التي يمنحها السفر والعيش في الثقافات واللغات الأخرى.
ساعدت التكنولوجيا الكتّاب العرب على تخطّي الحدود الجغرافية
طبعاً، الإبداعُ إبداعٌ وليس من شروطه السفر، فسفرُ الخيال لا يستهانُ به أينما وُجد، ولكن ما أود التأكيد عليه هو أنَّ السفر والعيش بين الثقافات نعمة كبيرة ولها فضل كبير على كتابات عربية حديثة، وفي الحقيقة القديمة أيضاً، حيثُ نجد ذلك في كتاب مثل "منطق الطير" لفريد الدين العطار الذي تأثرَ كثيراً بالثقافة الهندية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لنأخذ الكتب التالية: "النبي" لجبران خليل جبران، و"الأيام" لطه حسين، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وأشعاراً كثيرة لمحمود درويش في مراحلة اللاحقة ("ورد أقل")، وأشعار أدونيس مثل ديوان "هذا هو اسمي"، هل من الممكن أن نتصور هذه الكتابات العظيمة بدون السفر الحرّ والعميق والمتشابك مع ثقافات كثيرة، أبرزها العربية والإسلامية والأوروبية؟
ولا ننسى كتابات إدوارد سعيد باللغة الإنكليزية؛ حيث أصالة التعبير والفهم حين يكتب عن ثقافتين، العربية والأوروبية، وهو يعرفهما بعمقٍ ويسافرُ بينهما فكراً ولغةً بأريحيّة لافتة قلَّ نظيرها. هناك عمق وصدق حين تنبعُ تجربة الكتابة من العيش الصادق والهادف والنقدي في وبين ثقافات مختلفة، ولا يتوفر هذا العمق في من تقوقعَ واستبعدَ ثقافات أُخرى عن قصدٍ أو بغيرِ قصد.
ويبقى السؤال: هل سيغيّر ذلك الإعلامُ الجديد والإنترنت بشكلٍ عام؟
لا شكَّ أن وسائل البحث الجديدة والترجمات الكثيرة ساعدت الكثير من الكتّاب العرب على تخطي حدود جغرافيتهم من ناحية المعرفة، من خلال قراءات واسعة أصبحت متاحة لهم في السنوات الأخيرة. ومن هنا ظهرت كتابات أدبية كثيرة في العالم العربي ذات صدى كوني، وذلك بفضل الاطلاع على ثقافات أُخرى والتأثر بها، ولا ضير من ذكر الثقافة الأوروبية بالتحديد، لكونها تبقى الأقرب إلى العالم العربي كثقافة لها نصيب الأسد في خيال الكتّاب العرب ومعرفتهم.
لكن فوق كل ذلك، لا شيء يسدُّ فراغ تجربة الأماكن والعيش في كنفها والنبع من أفراحها وأتراحها ونقائضها لِكَتابة أدب وفكر مترامي الأصداء وإنساني القيمة والأبعاد.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن