لم ينته زمن الاكتشافات عند بعض مثقفينا، إذ باتوا يعبّرون عمّا يظنون أنه اكتشاف، بينما هو بدهية لدى المتلقي العادي، والقارئ العادي، و"الجمهور". اكتشفوا فجأة مع "طوفان الأقصى" أن الحرب بشعة، وأن الأطراف المتصارعة في الحرب سواء. اكتشفوا أن السلام جميل و"كيوت"، وأنَّ الإنسانية أغنية حلوة في القلب واللسان ومواقع التواصل. هم أنفسهم (أو أسلافهم وأساتذتهم) كانوا بالأمس مع "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" حين كانت التمويلات تأتي من أنظمة "الصمود والتصدي"، بينما الصوت اليوم لتمويلات التطبيع والجوائز الدسمة لأنظمة "الاعتدال". ليس اكتشافًا إذن بل تبديل أقنعة.
وهذه الجملة في ذاتها ليست اكتشافًا آخر بل بدهية. ما عاد ثمة معنى لكلمة "المثقف" عربيًا اليوم إلا بمعنى الارتزاق في الغالب، ومدعاة للسخرية دومًا. ولكن الفارق أن ما كانت حتى وقت قريب "قضية العرب المركزية" أمست اليوم مسألة فيها نظر، وقضية معقدة تستلزم منا نحن المخدوعين السذّج أن نهدأ وأن نفهم الأمور وبواطنها وما وراءها، فمن نحن كي نفهم "الصورة الكبرى" و"حرب الأصوليات"؟
ذر الرماد في عيون "المتابعين"
ليس لأحد أن يحاسب أحدًا على انحيازاته ربما، غير أن تردّي الثقافة اليوم صار متلازمًا مع التذاكي والتعمية وذر الرماد في عيون "المتابعين". ليس انحيازًا ما ترونه اليوم يا جمهورنا بل "موقف"؛ وصار لهذا الموقف اسم وهيئة وصفة: "السلمية". لا تفيدنا "الماذا عنّيّة" هنا، أي لِمَ فلسطين وليس أوكرانيا، ماذا عن مسلمي الصين، وماذا عن حقوق الأقليات، بخاصة اليهودية، التي باتت تتكاثر كالفطر في الروايات وفي المسلسلات والأفلام العربية. ما يحدث اليوم محض ارتزاق، ولا اسم آخر له. ارتزاق لا ادعاء "حياد" أو "موضوعية" أو "إنسانية"، وليست "سلمية" حتمًا.
إدارة الخد لا تكون من ضحية لجلاد، بل بين أحرار متساوين
تجادل أن أجندة الإسلام السياسي ضبابية، ولك أن تناقش أن استخدام فلسطين بات "أداتيًا" لدى هذا النظام أو ذاك. ولك - من جانب آخر - مقارنة فلسطين بسورية أو مصر أو السودان، وأن السلمية أجدى في الحالتين، أو أن التسلّح أسرع وأفضل. كل هذا قابل للنقاش، غير أن الأساس الأول لكل نقاش، ولأي نقاش، هو الاتفاق على ما لا نقاش فيه، على "الجوهر". لا معنى للسلمية إن كنت منحازًا للطرف الأقوى لا لشيء إلا لأنه الأقوى، ولا معنى للتعاطف مع "الضحية" حين تكون ضحية فقط لا حين تكشّر عن أنيابها وتردّ.
تولستوي والحاج مراد
ليس لنا إلا تولستوي هنا، لا لقيمته الإبداعية وحسب، إذ بات النقد اليوم يتحسّس من أي ذكر للتراتبية أو الأفضلية أو العبقرية. فكلنا أبناء تسعة، وكل من طبع كتابًا بات كاتبًا. سنأخذ تولستوي الآخر، تولستوي منظّر اللاعنف، ومُلهِم أجيال "سلمية" متلاحقة تبدأ بغاندي. لا أحد يعلم لمَ خطر على بال تولستوي أن يكتب "الحاج مراد" في أواخر حياته. صرف ثماني سنوات من حياته يكتب "خفية عن نفسه"، وكأنَّ مراد فرض نفسه على داعي السلمية الأكبر ونسف كلّ أفكار تولستوي السابقة عن يسوع موعظة الجبل وعن إدارة الخد الأيمن والأيسر.
يكتب تولستوي عن قائد شيشاني، عن "إرهابي" بتعريفات زمننا اليوم، غير أنه يهبه الصورة الأنقى من بين جميع شخصياته، ويهبه الموت الأسمى رغم أنّه قاتل الروس. يعيد كتابة "الغارة الروسية" على قرية شيشانية، بعد أن كان قد كتبها شابًا، ولكن الشيخ اليوم يرى الصورة الأخرى، صورة "البيادق" التي تُسحَق في الحرب. بيادق بلا شك، ولكنها لا تودّ إدارة خدها هذا أو ذاك، فإدارة الخد (حتى ضمن فهم تولستوي المسيحي المعارض للكنيسة) لا تكون من ضحية لجلاد، بل بين أحرار متساوين.
غريزة حفظ الذات
يكتب لنا تولستوي (بترجمة هفال يوسف) أحد أعظم التوصيفات لما يمكن أن نسميه "بهاء الحقد"، حيث لا معنى للسلمية أو اللاعنف إلا لو بات السلام استسلامًا: "لم يأت أحد على كراهية الروس، فما كان يشعر به الشيشان جميعًا، كبيرهم وصغيرهم، كان أقوى من الكراهية. لم يكن الكره ما يشعرون به، بل استقر في داخلهم أن الكلاب الروس ليسوا بشراً، وكان شعورهم بالنفور والقرف وعدم الفهم تجاه قسوة تلك المخلوقات الجنونية من الشدة بحيث كانت الرغبة في سحقهم، مثل الرغبة في سحق الجرذان والعناكب السامة والذئاب، شعورًا طبيعيًا كغريزة حفظ الذات".
ارتزاق لا ادعاء "حياد" أو "موضوعية" أو "إنسانية"
غريزة حفظ الذات هذه هي ما تحوّل "الضحية"، التي لا يحبّها مثقفونا إلا ساكنة خانعة مقتولة، إلى "فاعل". وليست السلمية أو الإنسانية نفيًا لهذه الغريزة بل تكريسًا لها لو صدق كتّابنا الكبار الذين كان الأجدى بهم الصمت. لا نطلب من المثقفين التضحية بمكانهم في قوائم الجوائز والمحكّمين والمؤتمرات والندوات التي تموّلها أنظمة "الاعتدال والإنسانية"، بل الصمت. الصمت لا التباكي بحجة أنهم يائسون ومتعاطفون ويودّون حقن الدماء، ولا التذاكي ورفع يافطات "الإنسانية".
ربما بات الحديث عن "تسجيل موقف للتاريخ" أمرًا مضحكًا وعبثيًا، ولكن ثمّة من تناقل المؤرخون الإسلاميون اسمه، بل ومنحوه مكانة يكاد لا يضاهيه فيها أحد لموقف صغير فعله. لم يذكر المؤرخون آلاف أسماء المسلمين والأحزاب في غزوة الخندق، ولكنّهم لم يغفلوا عن تكرار قصة نعيم بن مسعود الذي أنقذ المسلمين بعد أن كاد يقتلهم اليأس حين قال له النبي: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت". لم يُطلَب منه القتال ولا تحدّي الجيوش ولا التنازل عن المكاسب، بل التخذيل فقط، في كلمة حق.
* كاتب ومترجم من سورية