القوّة والخسارة مفهومان متناقضان يحكمان الإنسان في مراحل مختلفة يمرّ بها خلال حياته؛ ولطالما التقطت الفنون هذه الحالات النفسية، وسعَت إلى ترجمتها بتقنياتها الخاصة. وفي بلد مثل لبنان، يعيش نسخة خاصة من الخسارات التي ترتدّ إلى أصل أو سبب سياسي، تُحاول الحركة الفنية أن توازي في رؤيتها وتطلّعاتها هذا التاريخ الراهن، وأن يكون لها قولٌ فيه.
"اضطرابات: مفارقات القوّة والخسارة" عنوان معرض يحتضنه "غاليري تانيت" في بيروت حتى الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل الجاري، وتنبني فكرةُ أعماله على هذين المفهومَين الجدليَّين: القوّة والخسارة؛ بما في كلّ حدٍّ من مميزات الآخر، أو لِنقُل إنّ كلاهما يختصران ويستبطنان بعضهما بعضاً.
تتوزّع أعمال المعرض على قسمين؛ الأول يحمل عنوان "كيفَ توقف نموّ حجر"، ويضمّ تجهيزات فنّية من توقيع ليتيسيا حكيم وطارق حدّاد؛ حيث تُمكن ملاحظة ما يشتغل عليه الفنّانان، بتوجُّههما صوب عناصر طبيعية صلبة كالأحجار، والسَّعْي إلى استخلاص مقدار الأثير والخفّة فيها.
كما أن تجهيزات هذا القسم تُحدّق، من ناحية أُخرى، في الوضعية الاجتماعية التي أفرزتها الحركة الاحتجاجية في لبنان أواخر عام 2019. إنّها أعمالٌ تُذكّر بلعبة التوازن البسيطة "حجر، ورقة، مقص"، عناصر ثلاث تُحكمُ قبضتها على بعضها، والإخلال بأحدها، سيُفرّط بميزان اللعبة كلّياً.
أمّا القسم الثاني، فيتضمّن منحوتات لالياس نفّاع، جُمِعت تحت عنوان "تأبينٌ لجذوري"، وهي مأخوذة بثنائية البقاء والرحيل، بوصفها امتداداً أو تجلّياً من تجلّيات القوة/ الخسارة. منحوتات صغيرة يطغى عليها اللون الأبيض، تُحيل إلى المشروع الأول، أيضاً، وتتقاطع معه، ولكنّ خفّتها وتداعيها تظهران وكأنّهما سقوطٌ حُرّ، لم يصل إلى قرارٍ بعد.
وحيث تبدو التجربة الشخصية هي المُنطلق الذي تتأسّس عليه أعمال المعرض، فإنّ العامّ، أيضاً، له حضورُه؛ وعند هذا الحدّ ننتقل إلى مستوى آخر من التداخُل بين الشخصي والجمعي. فلا هشاشة الوحدة تبقى مكتفية بذاتها، ولا التماسُك أو التضامُن بين الجموع يبدو جليّاً، هي الحالة البَينية وقد تمدّدت، وانعكاسٌ لما يعيشه المجتمع اللبناني اليوم، وربّما هذا ما يُفسّر أن بعض منحوتات المعرض الصغيرة قد قُلبت رأساً على عقب.