قام الوالي الإصلاحي الشهير أحمد شفيق مدحت باشا (1822- 1884) بـ رحلة في أرجاء ولاية سورية، بدأها ربيع العام 1879 بقصد الوقوف على مشكلاتها، وكتابة تقرير للسلطان عبد الحميد يتضمن رؤيته للنهوض بهذه الولاية الهامة جداً كما يقول. وقد دونت صحف سورية العثمانية في ذلك الوقت وقائع هذه الرحلة التي شملت حماة وجبال الساحل السوري وعكا والجليل والبلقاء. أما بيروت ودمشق فكان يتقاسم الإقامة فيهما شهراً بشهر، وهو ما سمح له بالاطلاع الوثيق على أحوالهما.
يعد مدحت باشا من أهم الشخصيات الإصلاحية في السلطنة العثمانية، ودفع حياته ثمناً لآرائه الجريئة في شكل الحكم، حتى اتهم بأنه كان يريد تحويل السلطان العثماني إلى حاكم شكلي ليحل محل ذلك نظام برلماني على شاكلة بريطانيا، التي كان يراها نموذجه المفضل، ولذلك اشتهر بعلاقته مع الإنكليز، خصوصاً بعد نفيه في العام 1877، وعودته بعد أقل من عام بضغط من لندن، متوهماً أن الإنجليز سيساعدونه في مساعيه الإصلاحية، ولكنهم خذلوه وتركوه يلقى مصيره في سجن الطائف متهماً بقتل السلطان عبد العزيز خان، عم السلطان عبد الحميد.
تنوع إثني طائفي
يبدأ مدحت باشا تقريره بالحديث عن التنوع الإثني والطائفي الكبير الذي يميز هذه الولاية: "ممّا لا يحتاج للبيان والتعريف لديكم أنّ ولاية سورية أوسع من غيرها من ولايات الدّولة، وأنّ أهلها من العرب والأتراك والتركمان والدروز والنصيريّة والرّوم والموارنة والكاثوليك والبروتستانت والسريان والأرمن، ويتألّف من هؤلاء شعب عدده أربعة وعشرون نوعاً من الملل والأديان والمذاهب، ينضمّ إليهم الجزائريّون والشّراكسة والتتار وغيرهم من المهاجرين. ومن جهة أخرى، فإنّ أطوار وأحوال العربان والعشائر معلومة لديكم، وإنّ إدارة هذه الأجناس المختلفة على قاعدة واحدة، وما تولّده من مشاكل غني عن التعريف والإيضاح، وبأخذ ذلك بعين الاعتبار، وبعد الحوادث السيئة التي حدثت في الولاية".
ويضيف موضحاً حيثيات الاستقلالية الإدارية لجبل لبنان: "تمّ تشكيل إدارة جبل لبنان في وسط الولاية بمظهر الامتياز واستثنائه من تكاليف الضريبة والأعشار والجنديّة، ومن رسوم الطوابع والدخان والمشروبات المسكِرة، في حين أنّ سورية منذ زمن وهي عرضة لتدخّل الدول الأجنبيّة، وعلى الأخصّ فرنسا وإنكلترا المتنافستين على الرّقابة السياسيّة السيئة، فإحداهما تحمي الدروز، والأخرى تحمي الموارنة، فسلكتا معاً بقصد تعميم وتوسيع الحماية على المسلمين والمسيحيين".
ويشير الوالي إلى تدخل جديد في جبال الساحل السوري: "وبينما كان جبل النصيريّة الواقع بين لوائي حماة واللاذقيّة، والقريب من جبل لبنان، عامراً، على سعته، حتّى وقت قريب، فإنّ أكثر أهله تفرّقوا عنه نتيجة سوء الاستعمال في أمور الأموال الأميريّة، وإجراء القرعة، وأضحى سكّانه في حالة مُزرية، ما أدّى إلى قدوم الأميركيين للاستفادة من هذا الوضع؛ فأقاموا المدارس الكثيرة، وأنشأوا الكنائس، وهم يحاولون بذلك السيطرة على تلك الأنحاء، بينما استقرّ الألمان في نواحي عكّا".
دعوة لتحقيق المساواة
ولمواجهة هذه التدخلات، يرى مدحت باشا أنه "يتوجّب على الدولة العلية اتخاذ التدابير اللازمة للمحافظة على رعايا الدولة من الأهالي الذين يستفيدون من الحماية الأجنبيّة، خاصّة أنّ هذه الحماية واضحة أمام أعينهم، بما ناله سكان جبل لبنان من المعاونة الأجنبيّة، متمتّعين بالإعفاء من كافّة التكاليف".
ويتابع قائلاً: "على العكس من ذلك، فإنّ الفئة الأخرى من الأهالي محرومة من أيّ عطف، وهم في فقر وحاجة. وفوق ذلك فقد فُرضت عليهم ضريبة المسكن، وارتفعت إلى مثليها، وزيدت رسوم الأغنام، وصارت تؤخذ رسوم الدخان في بعض النواحي والقرى فوق تحمّل الأهالي، وذلك لأنّ قيود النفوس غير صحيحة في كلّ الجهات؛ لأنّ المتوفّين والقائمين بالخدمة العسكريّة، ما زالوا مقيّدين في دفاتر أخذ العسكر؛ طمعاً بأخذ البدل النّقدي منهم. ففي كلّ قضاء تدرج الأرقام بمثليها وبثلاثة أمثالها، حتّى إذا جاء وقت القرعة أخذ من المئة خمسة وتسعون نفراً، وأحياناً مئة بالمئة، ممّا ينفّر الأهالي ويسوقهم إلى العسكريّة بصورة غير مشروعة، وفي ذلك ضرر للدولة من النّاحيتين الماديّة والمعنويّة".
ويشدد مدحت باشا على أنه عرض على الباب العالي الكثير من الملاحظات المتعلقة بذلك من دون أن يتلقى أي رد، ويضيف واصفاً زيارته لجبال الساحل: "منذ زمن قريب، قصدت بنفسي منطقة النصيريّة، ودعوت رؤساء النصيريّة الباقين هناك وأمّنتهم على إجراء تحرير النّفوس والأملاك والأراضي من جديد، فأقرّوا ذلك برضائهم لتأمين إدارة الجبل المذكور، وتنظيم أمواله الأميريّة، وتحصيل قسم ممّا هو متراكم على الجبل من البقايا التي تبلغ قيمتها خمسة عشر مليون قرش، وعلّقت تنفيذ قرارهم على تأدية ذلك المبلغ، لمّا كان ذلك يحتاج لمصروفات تبلغ ثلاث يوكّات من القروش . لكنّ جواب أمانة الضرائب البرقي أفاد بأنّ الوضع المالي الحاضر لا يساعد على صرف هذا المبلغ، لذلك بقي الموضوع على حاله".
وحول أحوال لواء عكا ولواء البلقاء المتدهورة يقول: " وإنّ أهل لواء عكّا، وهم يبلغون أكثر من مائة ألف نفس، وبسبب تسلّط عشائر العربان عليهم، وسوء استعمال أسلوب القرعة العسكريّة، فإنّ أهله تفرّقوا، وخرب اللّواء، وانتقلت أكثر أراضيه إلى الأجانب، وقدّمت إلى الباب العالي في 23 كانون الأول/ ديسمبر تقريراً مفصّلاً من أجل إعماره، إلّا أنّني لم أتلقّ عليه جواباً. أما قضاء معان في لواء البلقاء وناحية الكرك التابعة له، فلا تزال منذ ستّ سنوات بدون إدارة. وقد شكا المسيحيّون المقيمون هناك من ذلك الوضع، ثمّ جاء المبشّرون الأجانب المرسلون خصّيصاً، فبدأ الاهتمام الزائد من الفرنسيين والإنكليز بتلك الأنحاء، وكنت بيّنت ذلك، وأوضحت ما يجب اتخاذه في تقريري المؤرّخ في 9 نيسان/ إبريل إلى الباب العالي، وأكّدت ذلك في 10 كانون الأوّل/ ديسمبر، لكنّي لم أتلقّ جواباً".
الاضطرابات في حوران والتمرد في جبال الساحل
يشرح الوالي مدحت باشا سياسته لمعالجة الاضطرابات في جبل الدروز (في لواء حوران) حيث يقول: "وفي العام الماضي، حدثت في جبل الدروز أمور، واستفيد من هزيمة الدروز، فوضعت لتنظيم قضاء جبل الدروز في لواء حوران أصول وقواعد، إلى حدّ ما، وعيّن له قائمقام، ومجلس ومحكمة وضبطيّة، وقطعت مرتبات بعض رؤساء الدروز، وخصصت للذين عينوا مجدداً من الموظّفين، وقد قدمت الدفتر المتعلّق بذلك مع المضبطة إلى الباب العالي بتاريخ 4 ذي الحجّة 96، ولم أتلقّ جواباً".
ويستطرد الوالي مدحت باشا في تبيان الإشكاليات التي ترافق تحصيل الضرائب، وكيف تنعكس على الحياة العامة، عارضاً مجموعة من الحلول المجربة سابقاً، والتي من شأنها أن تحقق السلام في الولاية المضطربة، لافتاً إلى أن الأعباء المالية المفروضة، وتنزيل رواتب المأمورين والكتبة مع وجود القوانين الجديدة التي حمّلت الوظائف ضعفي ما كان منها، بل ثلاثة أمثالها، حتى أضحى القيام بها خارج حدود الإمكان والطاقة، وهو أمر يؤدي إلى أن يلجأ معظم الموظّفين والمستخدمين الذين خُفّضت رواتبهم إلى الاختلاس.
ويتابع: "كما عرضت آنفاً، فإنّ سعة ولاية سورية واختلاف الأقوام التي تؤلّف أهلها، ومنهم تلك العشائر البدويّة المتجوّلة، وبينما كان قائماً على الإدارة والضبط والربط خمسة إلى ستة آلاف جندي من عساكر الضبطيّة والموظّفة المستخدمة، فإنّ الموظّفين الملكيين يرتأون ما يتفق مع القاعدة والنظام المقرّر بإنقاص عدد عساكر الضبطيّة والموظّفة تدريجيّاً، وكان في العام الماضي ثلاثمائة ونيف من الأنفار لهم مخصّصات نقديّة خفضت إلى ما يعادل عشرة ملايين قرش، وفي العام الماضي اقتضت المساعدة السنيّة العالية بأن يشكل وينظّم في الولاية شرطة ودرك وضبطيّة مؤلّفة من 2400 رجل، وخصّص لهم ثمانية ملايين وستمائة ألف ونيف من القروش، فكان في ظلّ حضرة السلطان أن وجدت هيئة منظّمة جداً من الشّرطة والدرك".
ويشرح الباشا الإشكاليات المتعلقة بتجنيد العساكر النظاميين وعناصر الضبطية في ظل هذه المشكلات المالية وتداخل الصلاحيات بينه وبين المشير، وهو القائد العسكري للمنطقة، فيقول: "وبسبب التزام الدائرة العسكريّة موقف المعارضة نحو الولاية، فإنّ ضبّاط هذه الفئة من العسكر والعساكر الأخرى الموجودة في الأماكن الأخرى قد تلقّوا تعليمات بألا يتحرّكوا إذا لم يكن هناك أمر من المشير، وألّا يتحرّكوا بأمر الوالي، ولذلك ومنذ العام الماضي، كانت إشعارات وإفادات موظّفي الحكومة بسوق العسكر إلى أيّ جهة، وبأيّ عدد من الجنود، لا تلبى، حتّى إنّه ومنذ ثلاث سنوات، وعلى الحدود بين سوريا وحلب، عندما تسلّط على قلعة المضيق وما جاورها من القرى المدعو برزق من أمراء النصيريّة، وضبط تلك الأنحاء وجمع حوله عدداً من الأشقياء فخرب المحلّات في تلك الأنحاء وضلّل أهلها، ومن أجل التنكيل به، رتبت الأسباب في العام الماضي بعد استحصال موافقة حضرة المشير الباشا، ثمّ سيقت إلى هناك قوّة من الضّبطيّة لمجابهة الشقي المذكور، في حين قصدت أنا العاجز إلى هناك، وسيق مع تلك القوّة أربعة بلوكات مشاة من طابور الطليعي، ومقدار من الخيّالة المتمركزة في حماة، وأحاطوا بالشقي، وضبطوا المحصولات سداداً لذمّة جماعة الأشقياء من الأموال الأميريّة، مقابل ما كانوا قد نهبوه وأغاروا عليه من حيوانات وأشياء الأهلين، وسلّم ذلك لإدارة العسكر".
ويؤكد الوالي صدور أوامر المشير بانسحاب العساكر النظامية من الجبل بعد تحقيق السلام، وهو الأمر الذي أدى إلى عودة ذلك الشقي وجماعته لما كانوا عليه.
مشكلة البدو في شرق حمص
يوضح مدحت باشا مشكلة البدو في جهات حمص فيقول: "ومن هذا القبيل، وفي العام الماضي، كان قد تقرّر توطين عرب الرولة في جهات حمص، مع الوعد بالمحافظة عليهم من أشقياء العربان، وكان حضرة المشير المذكور على علم بذلك. وفي هذا العام فإنّ أولئك العربان بينما كانوا قادمين إلى الأماكن المخصّصة لهم، ويبلغ عددهم بضعة آلاف، وبوصولهم إلى الجهة الشّرقيّة من حمص، داهمتهم عربان السبعة والحديديين واللهيب وغيرهم من الأشقياء المتفقين معهم، فهاجم أولئك العربان عرب الرولة... وعلمنا بذلك في حين أنّ مقدمي أولئك القبائل والعشائر قد أصابتهم في حمص وحماة خسائر كبيرة، وفي وقت من الأوقات لا يمكن لهم المرور من ناحية لأخرى في حدود ولاية حلب، وإذا حاولوا المرور كان لا بدّ من سوق العسكر نحوهم لضربهم والتنكيل بهم، وهذا ما قرّره الولاة السّابقون".
ويضيف شارحاً ما حصل من عربان الديرة مع عرب الرولة، وهم من قبائل عنزة القوية المدعومة من العثمانيين: "من أجل ذلك، كان لا بدّ من تأليف قوّة عسكريّة من حمص وحماة ترافق عساكر الدرك، وهذا ما طلبناه على دفعات من جانب حضرة المشير، ولم نتلقّ جواباً. وأخيراً، وفي 18 جمادى الأولى 97، أرسلت إليه كتاباً مفصّلاً، لكنّه لم يردّ جواباً. وبعد مرور فترة من الوقت، كان مجيء أولئك العربان والعشائر المؤلّفة من عشرة آلاف خيّال ليباغتوا عربان الرولة، ويصلوا إلى القرى المعمورة في حمص، في حين، وبناء على إشعار سابق، أرسل من حماة بلوك من الدرك وبضعة عشر خيالاً من الضبطيّة من أجل المحافظة على عربان الرولة أمام الأشقياء كثيري العدد، وإنّه من غير الممكن مجابهتهم، وكان من الواجب على المشير أن يصدر أمره بسوق العسكر، لكنّه لم يفعل شيئاً، وفي هذه الأثناء هاجم الأشقياء عربان الرولة".
تداخل صلاحيات
يتابع مدحت باشا حديثه عن التعارض بين السلطة العسكرية التي يمثلها المشير والسلطة المدنية التي يمثلها هو، فيقول: "بالرّغم من أنّ المحافظين لا يزيدون عن 70 نفراً من الدرك مع العربان الذين تعهدنا بحمايتهم. فقد جابهوا الهجوم وبتوفيق من الله تغلّبوا على المهاجمين الأشقياء، وقتلوا اثنين من رؤسائهم مع بعض الأفراد، وعادوا خائبين متراجمين، وكان حضرة المشير يشاهد المعركة بالمنظار من بعيد، في حين كان في المنطقة التي كان فيها مشاة وخيّالة كثيرون، ومدفعيّة وعسكر... ومع ذلك، لم يرسل بلوكين من العسكر لمواجهة جماعة مؤلّفة من عشرة آلاف تتصادم في معركة مع الدرك والعربان، وإنّ امتناعه عن ذلك واكتفاءه بالمشاهدة من بعيد أمر يوجب النّظر إليه بالتّعجّب من العامّة، وأحدث نفرة، وعقب ذلك فإنّ مجابهة جماعة من المسيحيين في حمص بالسّلاح من قبل العسكر، وسقوط قتيل واحد منهم إلى جانب عدد من الجرحى، ورغم أنّ هذه تعتبر قضيّة هامّة، وبالرغم من أنّ حضرة المشير المشار إليه كان في حماة، فإنّه لم يسأل عن هذه الحادثة، وعن كيفيّة وقوعها، بل قصد حلب عن طريق الصّحراء، إنّ ذلك من الأمور الموجبة للاستغراب".
يخلص الوالي إلى نتيجة حول تداخل الصلاحيات هذا فيقول: "إذا لم تكن هناك معاونة عسكريّة، فإنّه من غير الممكن إدارة هذه الولاية، فإنّ المعاونات التي طلبت لمجابهة الحوادث كانت تلقى مخالفة، وعدا ذلك، فإنّ إعطاء الأمر بألا تتحرّك المفرزة العسكريّة اللازمة التي يجب أن تكون تحت رأي الولاية في الحركة، ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه التصرّفات الشّخصيّة المشبوهة لا تعني إلّا وضع البلاد، معاذ الله، في حالة خطرة".
ويشير الوالي إلى حادثة غريبة تتعلق بأوامر برقية وجهها المشير، قائد الجيش، إلى جنوده بنهب أسواق بيروت بسبب نقص الرواتب، ويعدّها حركة خطيرة جداً وعواقبها وخيمة، ولذلك طالب مدحت باشا بصلاحيات كاملة لكي يحقق الإصلاح المطلوب في الولاية، وهو ما لم يحصل عليه مطلقاً، فاعتكف بعد ذلك في مقره بين دمشق وبيروت، وتقدم باستقالته، حتى أتته الموافقة في منتصف العام 1880.