اتفاقية جنيف.. تاريخٌ لم يخرج من جغرافيا ضيّقة

24 يوليو 2021
مظاهرة في كوبنهاغن ضدّ قرار ترحيل لاجئين سوريين، أيار/ مايو 2021 (Getty)
+ الخط -

أثارت قرارات الحكومة الدنماركية بإمكانية إعادة اللاجئين السوريين إلى مدينة دمشق وضواحيها، لأنّها أصبحت "مناطق آمنة"، غضبًا واسعًا بين السوريين وفي أوساط حقوقية. الشهادات التي نشرها موقع "الجمهورية" في مقالٍ بعنوان "الليمبو الدنماركي"، مُروِّعة. تعرُّض يومي للعنصرية، وابتزاز حكومي بالترحيل، وأوضاع معلّقة بقرارات ظالمة. لعلّ النصّ القانوني الأكثر شهرة حول اللجوء، هو اتفاقية جنيف للاجئين الموقّعة في 28 تمّوز/ يوليو عام 1951. ستحاول هذه السطور البحث في ظروف نشأة هذه الاتفاقية وسياق تطوّرها.

القرن العشرون هو قرن اللجوء واللاجئين. خلال الحرب العالمية الأولى وحتّى نهاية عام 1918، كان في أوروبا حوالي 13 مليون لاجئ. خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، تحوّل على الأقل 175 مليون إنسان إلى لاجئين، أي ما يعادل تقريبًا 8 بالمئة من سكان الكرة الأرضية آنذاك. القرن العشرون هو أيضًا قرن "الصحوة الإنسانية". في عام 1948 وضعت الأمم المتحدة، كما هو معروف، نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي 28 تمّوز/ يوليو من عام 1951، وتحديدًا في قصر "عصبة الأمم"، وقّعت 12 دولة على أول اتفاقية تخصّ اللاجئين، صارت تعرف باسم اتفاقية جنيف. حتّى هذه اللحظة، انضمت 149 دولة إلى هذه الاتفاقية، وهي تشكّل فعليًا جوهر القانون الدولي بشأن حماية اللاجئين.

لما ترسّخ نموذج الدولة القوميّة (الدولة/ الأمّة) في أوروبا، في نهايات القرن التاسع عشر، نشأت الحاجة إلى تعريفات قانونية دقيقة تحدد الانتماء إلى الدولة وحق المواطنة. من هو المواطن ومن هو العابر؟ من يحقّ له مغادرة البلاد ومن يُسمَح له بالدخول؟ واجهت الدول القومية الفتية هذه الأسئلة الملحة، خصوصًا في ظلّ ثورات سياسيّة كانت تعصف بالعالم، وتحت ضغط تزايد أعداد المنفيين والمهجرين الذين يطلبون الحياة والمأوى. إثر ذلك، قامت الكثير من الدول الأوروبية بعقد اتفاقيات ثنائيّة أمنية كانت على مستوى مؤسسات الشرطة والقوانين الجنائيّة، ونصّت على عدم تسليم وإعادة اللاجئين السياسيين إلى البلدان التي فرّوا منها. الاتفاقيات الثنائية بين الدول القومية الفتية هي الشكل التاريخي الأكثر بساطة لمبدأ عدم الترحيل القسري.

تطوّرت الاتفاقيات الثنائيّة بعد الحرب العالمية الأولى إلى "سياسات لجوء" أكثر وضوحًا. حدّدت عصبة الأمم مفهوم اللجوء حصرًا من خلال انتماء اللاجئ إلى جماعة عضويّة، سواء أكانت قومية أم دينية أم عرقية أم سياسيّة. في عام 1921 تم تعيين النرويجي الحائز على جائزة نوبل للسلام فريتيوف نانسن (1861 - 1930)، مفوضًا ساميًا من أجل اللاجئين الروس، وتمّ توسيع مهامه عام 1924 ليمثّل أيضًا اللاجئين الأرمن الذين نُكِّل بهم قبل تحلّل السلطنة العثمانية. في ألمانيا عام 1933، تم إنشاء مفوضيّة للاجئين كانت مستقلة عن عمل عصبة الأمم، وهذا منطقي لأنّ النازيين استلموا مقاليد السلطة. في عام 1922 قررت العديد من الدول إصدار وثيقة سفر تسمّى جواز سفر نانسن (Nansen passport)، والذي سمح للاجئين عديمي الجنسيّة بالعودة حصرًا إلى الدول التي أصدرت لهم هذه الوثيقة. عمومًا بقي نطاق ونجاح هذه المؤسسات محدودًا جدًا بالمقارنة مع حجم التحديات.

اعتُمدت صياغةٌ ضبابية تحسم التوتّر لصالح سيادة الدول

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، حصل تطوّر على مستويين. من جهة، ترقّى جواز سفر نانسن إلى وثيقة سفر لندن (London Travel Document)، والذي تطوُّر أخيرًا بدوره إلى جواز سفر اتفاقية جنيف للاجئين (الجواز ذو اللون الأزرق مع خطين أسودين، المعروف جيدًا للسوريين والفلسطينيين)، ومن جهة أخرى، صارت فكرة ضرورة إيجاد حل نهائي لمشكلة اللجوء تلقى صدى أوسع في أوساط النخب السياسية بأوروبا وأميركا.

أبدى الحلفاء المنتصرون، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية، اهتمامًا خاصًا بمهجري الحرب العالمية الثانية والذين صار لقبهم DPs) Displaced Persons). عمليّة إعادة هؤلاء المهجرين إلى بيوتهم بدت تحديًا ومقياسًا لأي خطة سلام ناجحة للعالم. عملت أميركا بعد الحرب على ثلاث خطط متزامنة: خطة مارشال التي أعادت بناء ألمانيا المدمرة بعد الحرب اقتصاديًا وحوّلت النازية إلى تابو سياسياً، اتفاقية بريتون وودز Bretton Woods الاقتصادية عام 1944 والتي رسّخت هيمنة عملة الدولار في السوق العالمية، وخطة من أجل إعادة توطين مهجري الحرب DPs. خطة مارشال كانت محكمة ومنظمة ولها نَفَس طويل الأمد. اتفاقية بريتون وودز وضعت هياكل طويلة الأمد أيضًا لنظام اقتصادي عالمي تهيمن عليه أميركا. ولكن الحلول حول مشاكل اللاجئين لم تكن أبدًا ذات طابع هيكلي طويل الأمد، بل تم وضع استراتيجيات وكأنها مشكلة عاجلة على عكس الحلَّيْن الآخرَيْن. الحلفاء لم يهتموا بشكل جدي بمشكلة اللجوء كمسألة بنيوية في العالم بحاجة إلى حلّ جذري، بل كمشكلة عاجلة تتطلب رد فعلٍ سريعاً ومؤقّتاً.

والحال، فقد أسس الحلفاء على عجل منظّمتَيْن مؤقتتَيْن (كما كانت الفكرة)، الأولى هي "منظمة إغاثة الأمم المتحدة" (UN Reflief)، والثانية هي "إدارة إعادة التأهيل" (RA). قامت المنظّمتان فعلاً بتحسين أوضاع حوالي 6 ملايين لاجئ أوروبي و6 ملايين لاجئ صيني وياباني وكوري في منطقة المحيط الهادئ. ولكن ظهرت عقبات من نوع خاص، وهي أن كثيرًا من النازحين من أوروبا الشرقية رفضوا العودة إلى بلدانهم الأصلية التي صارت تحت حكم الاتحاد السوفييتي والرعب الستاليني. تم وضع برنامج خاصّ لهؤلاء، وقُدِّر عددهم بحوالي مليون إنسان، واستمر البرنامج حوالي 5 سنوات تمت من خلاله إعادة توطينهم في كثير من الدول. لم يكن هذا الإجراء فقط طريقة لحفظ السلام مع اقتراب الحرب الباردة، بل كان يراد تقديمه كبديل إنساني يعبّر عن "قيم" الحلفاء المتمحورة حول "التعدد" في مجتمعات صارت تقريبًا صافية عرقيًا بسبب عمليات العزل الإثني والتغيير الديموغرافي التي سببتها الحرب. 

ولكن العالم لم يهدأ وبقي "يفرز" لاجئين. الحرب الأهلية في الصين اقتلعت ملايين البشر من بيوتهم. فرّ 15 مليون إنسان من قراهم ومساكنهم نتيجة نزاعات التقسيم الحدودي الشرسة بين الهند وباكستان. اقتُلع 800 ألف عربي فلسطيني من حقولهم وقراهم على يد عصابات الاحتلال الإسرائيلي. العالم كان يحبس أنفاسه منتظرًا اللاجئين الذين ستولّدهم الحرب الكورية. صار واضحًا الآن أنّ اللجوء ليس مسألة أوروبية عاجلة، بل هي مشكلة ذات بعد عالمي وبحاجة إلى حل جذري.

بعد نكبة فلسطين، ضغطت العديد من المنظّمات الحقوقية من أجل منظمة عالمية موحدة تهتم بشؤون اللاجئين. في الوقت نفسه، سعى العديد من الخبراء القانونيين إلى إيجاد مكان ما للهاربين من الحروب في القانون الدولي. اللاجئ شذوذ قانوني لأنّ القانون الدولي يحمي الأفراد من خلال العضوية في الدول القومية. اللاجئ هو بلا حماية من طبيعة مزدوجة، مرّة على الصعيد الوطني لما يُطرَد من الدول القومية، ومرّة على الصعيد الدولي لمّا يتمّ حرمانه من حق المواطنة في الأمكنة التي يهرب إليها. حاولت مجموعة من المحامين والمحاميات في أميركا إعادة تصميم القانون الدولي من خلال إدخال معايير جديدة، وهي إنهاء التمييز ضد المرأة ورفع الظلم عن الأقليات واحتواء الهاربين من الحروب وتعزيز مكانة الفرد في القانون الدولي.

لم تستفد الاتفاقية من تجربة اللجوء بعد الحرب العالمية

بين عامي 1947 و1948 عندما تمّت مناقشة ميثاق حقوق الإنسان، وجدت هذه المجموعة الفرصة ممتازة لـ"دس" أجندتها في عملية صياغة الميثاق. المناقشات حول فقرة اللجوء كشفت عن توتر بين صياغتين: هل يجب أن يكون حق الإنسان محفوظًا في الحصول على اللجوء، أم يكون للدولة الحق في منح اللجوء للهاربين؟ بمعنى آخر، أيهما يأتي أولاً: حقوق الفرد بمعناها الكوني الإنساني العام أم سيادة الدول بمعناها السياقي التاريخي الخاص؟ أميركا وبريطانيا قالتا علنًا: "من غير الواقعي إجبار الدول على استقبال عدد غير محدود من اللاجئين". في النهاية، تم اعتماد صياغة ضبابية تحسم التوتر لصالح سيادة الدول. الصياغة الجديدة أشارت إلى أنّ اللاجئين لهم الحق في "تقديم اللجوء" ولكن إذا كان سيتمُّ منحهم حق اللجوء أم لا، فهو أمر يخص البلدان المستقبلة. فعليًا لم يتم المس بسيادة الدول، والصياغة تشبه جملة: "اصرخ كما تشاء، وأنا سأقرر إذا كنتُ سأسمعك أم لا". حث الخبراء القانونيون على رفض هذه الصيغة المضحكة، وطالبوا بنص قانوني منفصل. ومن هنا بالضبط جاءت فكرة اتفاقية جنيف للاجئين كفرصة أخيرة، وهي محاولة تثبيت حق اللجوء كحق كوني عام يتجاوز سيادة الدول بالمعنى السياسي.

أثناء كواليس التحضير لاتفاقية جنيف، تَوضّحت بشكل نهائي صعوبة صياغة نص يعزز مكانة الفرد اللاجئ في القانون الدولي ويعطّل أفضلية سيادة الدول. عضو الكونغرس الديمقراطي الأميركي إيد جوسيت قالها لمّا حُشر في الزاوية في مؤتمر صحافي: "ربما يوجد 100 مليون إنسان في العالم يرغبون بالقدوم إلى بلدنا، ويعاني الكثيرون منهم أكثر مما يعاني مهجرو أوروبا بعد الحرب. الملايين يتضوّرون جوعًا في الصين والهند، ولكن هنالك حد لعدد الأجانب الذين يمكننا استقبالهم". اعتراض جوسيت يلخّص الجوهر الصحافي لسياسات الدول إزاء اللاجئين. العالم مليء بالهاربين ولا يمكن مساعدة الجميع، بل يجب حماية الدول من "التزامات مبالغ بها". من هذا المنطلق لم تقم إدارة الرئيس الأميركي ترومان بأي جهود جديّة أثناء التحضير لاتفاقية جنيف. المهم بالنسبة إلى هذه الإدارة هو تحقيق "الاستقرار الأمني" في أوروبا وصياغة اتفاقية حصريّة تعيد توطين مهجري الحرب العالمية الثانية (DPs).

اتفاقية جنيف إذاً تأسست في سياق مهمة محددة وخاصة وضيقة: إعادة توطين لاجئي الحرب العالمية الثانية داخل أوروبا، حتّى أن صحيفة "نيويورك تايمز" علّقت بشكل ساخر: "ما بدا كمعاهدة للعالم بأسره، انتهى باتفاقية خاصة بأوروبا". اتفاقية جنيف لم تستفد من تجربة اللجوء الأوروبية لوضع اتفاقية تأخذ زمام المبادرة من سيادة الدول، وتفتح آفاقًا أوسع إلى المستقبل بأثر رجعي قادم من التجربة الأوروبية، بل كانت مصممة بأثر رجعي بحت، واختصّت فقط بحل مشاكل اللاجئين الأوروبيين ما بعد الحرب. تعرّضت هذه الاتفاقية إلى محاولات تحديث متكررة من أجل توسعتها وإدخالها إلى سياق عالمي أوسع قادر على استيعاب كميات أكبر من اللاجئين، وخصوصًا في نهاية السبعينيات، ولكن التوتر بين سيادة الدول وحق الفرد لم يحسم بشكل جذري.

دخل إلى أوروبا حوالي مليون لاجئ سوري. عذراً، هذا رقم سخيف مقارنة مع ضخامة اللجوء السوري وأعداد اللاجئين في القرن الماضي. ما أظهره اللاجئون السوريون هو إمكانية تقويض اتفاقية جنيف من خلال التأكيد على سيادة الدول و"حقها" في منح اللجوء من عدمه، وهذا بالضبط ما تدركه نخبة سياسية شديدة الأنانية مثل النخبة الحاكمة في الدنمارك.


* كاتب من سورية

المساهمون