ابن عربي: الأنوثة التي تتخفّى في كلّ شيء

05 ابريل 2022
من سلسلة "أقاليم متقاربة" للمصوّرة المغربية لالة السعيدي (جزء من عمل)
+ الخط -

تجد مسألة الجمال الكوني في المرأة، في المؤنّث، رمزيّةً ملموسة، إذ إنها تجمع بين الرُّوح والبدن والسموّ والطبيعة، بغضّ النَّظر عن المعايير الأخلاقيّة أو القواعد العرفية التقليدية. إنَّ حبَّ الطَّبيعة، والمرأة، كنموذج قدسيّ أوّلي لها، هو جزءٌ من الحبّ الإلهي الكوني والشّامل. وتستند فلسفة الشيخ الأكبر، ابن عربي، في الوجود، إلى فكرة جمال الله والعالَم، فهما وجهان لعُملة واحدة. والحبّ هو جاذبية لجمال العالَم، وهو أيضاً ردّة فعلٍ أمام مشاعر الغربة والانفصال التي تلبس وجود الإنسان وسائر المخلوقات. وفيما يتأمَّل الصوفي جمال العالم، وهو جمال الله نفسُه، يشعر بالحبّ إزاءه، وهو في أثناء ذلك يدرك بشكل فاجع انفصاله المحزن عن الحقّ (الله)، ويتشوَّق الى العودة إلى مكانه الأصليّ.

ويرى ابن عربي أنَّ الله خلق الحبل الذي يُبقي على اتّصاله مع خليقته بعد انفصالها الأصليّ عنه. من جهة، يتشوّق الصّوفي لاستعادة اتّصاله الأوّلي، ويجد في الكتابة وسيلة لإدامة رغبته والتغلّب على عقبة الزّمن والتَّناقض الظّاهريّ بين الحلم والحَقيقة، "فالكتاب ضَمُّ معنى إلى معنى، والمعاني لا تقبل الضَّمّ إلى المعاني حتّى تُودع في الحروف والكلمات... وانضمام الحروف تسمّى كتابة. ولولا ضمُّ الزَّوجين ما كان النكاح، والنّكاح كتابة، فالعالم كلّه كتابٌ مَسطورٌ، لأنّه منضود قد ضمَّ بعضه إلى بعضٍ".

يقدّم هذا الانتقال من المستوى الجنسي إلى مستوى الكتابة ــ والتي ترتبط فيها مفاهيم الحبّ والأنوثة والوجود خارج المنطق النَّحوي والنظرة العقليّة للعالَم ــ رؤيةً جديدة للانسجام العميق الذي يدمج به ابن عربي التجربة الصوفيّة في نظرته للعالَم. فالكتابة الصوفية هي فعلُ حبٍّ، وفيها تتدفّق المعاني المتجسّدة في أشكال الحروف والكلمات؛ إنها جسدٌ أنثويّ ورمزٌ عن الكتاب الإلهي للعالَم، الذي لا ينضب، أنّى وُجِدت الموجوداتُ مِن خلال شريعة الحب العالمي.

عند ابن عربي، محبّة المرأة هي حنين الكلّ إلى الجزء

وليس من قبيل المصادفة أن يختتم ابن عربي كتابه "فصوص الحكم"، بلؤلؤة محمّدية يلخّص بها كلّ فكره تقريباً، مؤكداً القيمة الفائقة والخاصّة للمرأة، حيث يذكّر بقول النبيّ في المحبّة، "التي هي أصل الموجودات" بحسب ابن عربي: "حُبّب إليّ من دنياكم ثلاثٌ: النّساء والطّيب وجُعلت قرّة عيني في الصَّلاة". ويفسّر ابن عربي هذا الحديث بطريقة خاصّة وشخصية جدّاً، فهو يعتقد أن النبي أعطى دوراً خاصّاً للمرأة لأنّ "المرأةّ جزءٌ من الرّجل في أصل ظهور عينها". ومحبّة المرأة هي "حنين الكلّ إلى الجزء". والنبي يسترجع في شخصه الكريم الحبّ بين الحق وخلقه. وفي سياق الخليقة الإلهيّة، خُلِقت المرأة على صورة الرجل، وهكذا يشعر الرجل بالحنين إليها، والحبُّ ذاته الذي يشعرُ به الله سبحانه لما خلقه على صورته. هنا تقع المناسبة، "فالصورة أعظم مناسبة وأجلّها وأكملها، فإنّها زوج، أي شفّعت وجود الحقّ، كما كانت المرأة شفَّعتْ بوجودها الرّجل فصيّرته زوجاً". لهذا السبب، "لمّا أحبّ الرّجل المرأة طلبَ الوصلة، أي غايّة الوصلة التي تكونُ في المحبّة"، "فلم يكن في صورةِ النّشأة"، يضيف ابن عربي، "أعظم وصلةٍ من النّكاح".

هكذا تكون المرأة الصورة الأكمل التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتأمّل الحقّ. لأنّه فيها يشاهد الحقّ من حيث هو فاعلٌ منفعلٌ ومتمثلُ فيها كواسطة أمرَ الخالقُ أن تكونَ على صورة الرَّجل. ويصل هذا الشَّعور العميق بالحبّ تجاه المرأة والطّبيعة إلى أقصى تعبيراته في ديوان الحبّ الصوفي "ترجمان الأشواق"، حيث يعود ابن عربي فيه إلى الشعر الجاهلي واصفاً بعمقٍ الشغفَ الذي يحسّه الصُّوفي نحو الأنوثة الأبدية والأصل المفقود.

وهنا تحديداً سنلاحظ، على الرغم من الانجذاب العاطفي نحو الألوهيّة والمُتجسّد في العالَم الطَبيعي والمرأة الكاملة، حزناً شاملاً ناجماً عن الشُّعور بالغربة والنّزول اللّحظي المتأصل في الحالة الإنسانيّة. ويفتتح الشيخ الأكبر ديوانه بحمد الله الحسن الفعّال والمحبّ للجمال، المُتجدّد في العالَم والمتجلّي في أحسن صورةٍ، صورة النبيّ، ثم بعد ذلك يصف حُسن بنتٍ اسمها نِظام كرمز ونموذج للأنوثة الكاملة وانعكاس للألوهية. وتظهر هذه المرأة الكاملة لشيخنا الأكبر حتّى وهو يطوف حول الكّعبة – ذات المركز، خارج المكان والزمان - لتُصبح مُرشِدَه وملهمه للتّعمق في أسرار المعرفة الباطنيّة.

في "ترجمان الأشواق" محاولةٌ واضحة لتأنيث القصيدة

وعموماً، في ديوان "ترجمان الأشواق"، يرتبط شغف المُحبّ في وعي الصوفي بشكلٍ خاصّ بلحظة الفناء والموت، كذلك يرتبط بحزنٍ عميقٍ ناجم عن الشعور باللاانتماء وعدم الإحساس بالإنسانية. وينتقل النَّص من شخصيّة إلى أُخرى، ويكرّر دائماً ثنائية الانفصال والاتّصال، الظّاهر والباطِن. ويفتتح ابن عربي قصائدهُ ذات الطّابع الجاهلي بعباراتٍ مألوفةٍ عن الشوق والثناء على الحسناوات، ثم يقودنا إلى موضوعه الحَقيقي الذي هو غموض العالم. وقد تبدو صوره كلاسيكيّة بعض الشيء، إلّا أن مصدر إلهامه وهدفه ليسا كذلك: إنَّهما الحبّ الكوني ووحدة الوجود. وقد أدّت العلاقة المتوتّرة بين صِفات الجَمال الأزليّ، والكامل، والمضيء والمقدّس من جهة، وبين جوانبه المَرئيّة والطبيعية من جهة أخرى، إلى نقد المُتشدّدين، غير أن ابن عربي يحسم هذا التوتّر لصالح الجمال المُطلَق، الذي يعودُ إليه دائماً لدمج الطَبيعي مع ما فوق الطبيعي.

وفي كتاب "ترجمان الأشواق"، لا يَتحدّث الصوت الأنثوي كصورة شعريّة فحسب، بل كمحاولة واضحة لتأنيث القصيدة والكشف عن الأنوثة المخفيّة في هذا العالم، وبالتالي توحيد الطّبيعة مع الألوهيّة. والشاعر الصوفي يبني جماليّاته من خلال استحضار جمال القَمر أو المرأة أو عناصر الطّبيعة المتنوعة؛ وإسهابه في جماليّات الذّات الإلهيّة التي تشمل كلّ شيء، والتي يعبّر عنها من خلال تلك الموجودات، لا سيّما المرأة، فكُلُّ مكانٍ لا يؤنَّث لا يعوّل عليه. 


* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا

المساهمون