إيتيل عدنان.. بعيداً من الجزيرة المعزولة

16 نوفمبر 2021
إيتيل عدنان في منزلها بباريس، 2015 (Getty)
+ الخط -

أقرأُ أنّ "جمعية دراسات الأدب المتعدّد الإثنيات" (أميركا) قد صنّفتها، في 2003، كـ"أهم وأشهر كاتبة عربية-أميركية"، ثم أنظرُ حولي، في ثقافتنا العربية، وهي التي تنحدر منها، فلا أجد سوى القليل من حضور إيتيل عدنان بيننا.

تملأ معارضُها الاستعادية العالم، لكنها نادرة في مُدن الغاليرهات العربية، من بيروت - مسقط رأسها - إلى طنجة. وينشغل بمنجزها نقّاد الفن ويحاور تجربتها تشكيليون من القارات الخمس، وقلما نعثر بينهم على فنانين يشتركون معها في الثقافة الأم. كما لم تتحوّل تجربتها الأدبية إلى رافد يغذّي بمعجمه وأبنيته وأمزجته الخيالَ العربي. وقل الأمر ذاته، أو أكثر، عن كتاباتها النقدية.

لم يصل إلى اللسان العربي سوى جزء يسير، بفضل خالد النجار وسركون بولس أساساً، من بين عشرات العناوين بالفرنسية والإنكليزية، وجسور الترجمة الممدودة بين هاتين اللغتين، وفي قائمة العناوين هذه يوجد الشعرُ والسرد والدراسات.

ربما تطمئننا، نحن عرب القرن الحادي والعشرين، بعض الترجمات إلى أن مبدعاً ما بات حاضراً بيننا، لكن الحضور لا يمكن أن يقتصر على جسر واحد، هو الترجمة، لأن الثقافة لا تُختزل في الكتابة فحسب، ثم إن المؤلفات ليست سوى بُعد وحيد من تجربة عدنان. فقد كانت الشاعرة اللبنانية (السورية الأصل والأميركية الجنسية والفرنسية الإقامة) نقطة لقاء بين الفنون والألسن والحقول المعرفية، وكانت تجربة ممتدّة في الزمن عرفت كيف تجدّد خلاياها وفي نفس الوقت تحافظ على خيط ناظم.

ربما وحدها كُتب السيرة العميقة يُمكنها أن تنقل هذا التعدّد في إطار واحد. فهل يوجد في ثقافتنا من نهض بهكذا مشاريع؟ وقبل ذلك هل وُجدت عندنا، أصلاً، تقاليد كتابة سيرة الفنانين والشعراء والروائيين؟ غالباً سننتظر أن تُكتب سيرة من هذا النوع بالفرنسية أو الإنكليزية ثمّ نترجمها. وإن رحيل المبدعين من أصول عربية كثيراً ما يضاعف شهرتهم، وبالتالي يخلق استعداداً أكبر للاشتغال عليهم، لسبب بسيط هو أن منظومة الصناعة الثقافية، من الباحثين إلى الناشرين، تكتشف حجم الشخصية الراحلة في مثل هكذا مناسبات. وعادة ما يحدث ذلك من خلال اعتراف الثقافات الأخرى وليس بشكل مباشر يعبّر عن حاجة ثقافتنا لاستقبال شخصية إبداعية ما.

أن تحضر إيتيل عدنان في الثقافة العربية يعني أن نجد مكتبة حولها

أن تحضر إيتيل عدنان في الثقافة العربية يعني أن نجد مكتبة من الدراسات الفنية والأدبية حولها. أو على الأقل أن نجد لها أثراً في الإحالات البحثية بالعودة إلى كتاباتها أو إلى أعمالها الفنية. وكل ذلك مفقود أو يكاد. ها أنا، بمناسبة كتابة هذه المقالة، أُراجع فهرس الأعلام الوارد في "معجم مصطحات الفنون البصرية" الصادر حديثاً في تونس (سامي بن عامر، حزيران 2021) فأجد عشرات الفنانين الغربيين والعرب، ولا أجد اسم إيتيل عدنان. كنتُ أنتظر مثل هذا الغياب، لأنه ماثل حيثما ولّينا وجوهنا. أحياناً تكاد تخفي هذه الحقيقة استعمالات صحافتنا الثقافية للوحاتها، ما جعل عوالمها البصرية مألوفة إلى حدّ.

لكننا بشكل عام نقف، مرّات أخرى، أمام ما تجنيه الثقافة العربية على نفسها وهي تُضيع فرصاً كثيرة للانتماء الفاعل إلى العالم. أما أنا فأتأكّد من مقولة "هدر الإمكانية" التي أطلقها عالم الديمغرافيا المصري نادر فرجاني في سياقات بعيدة.

ألّا تحضُرَ إيتيل عدنان بقوة في ثقافتنا يعني ألا نعطي أنفسنا فرصة لمعرفة كيف يمكن اجتراح اعتراف عالمي بأدوات الفن والكتابة وليس عبر التسويق. تتيح لنا تجربتها أن نفهم كيف يمكن لمن يأتي من الشرق أن تبزع شمسه في سماء عواصم المركز الغربي الملبّدة بالغيوم. مثلُ إيتيل عدنان هي أشبه بصلة رحم مع راهن الفن، مع العروق الحية للثقافة العالمية. ألسنا بهذا المعنى قاطعي أرحام؟

نفعل ذلك بكثير استهتار، وكأن الموقع الذي حازته عدنان في الثقافة العالمية سهل المنال. يحتاج أخذ هذا الموقع إلى عقد من الزمن، على الأقل، من تطوير الموهبة والاجتهاد وحسن إدارة المسارين الفنّي والأكاديمي. ونحتاج نحن إلى تطوير أجهزتنا الثقافية كي نستفيد من مثل هذه المغامرات الفردية، في الفن والفكر والأدب والعلوم. تلك هي الجسور التي يجدر بنا الاعتناء بها كي لا نكون جزيرة معزولة في هذا الكوكب.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون