نحن في 1995، وصلتُ مع جوليان بلين إلى "غاليري ماير"، أحد الفضاءات النادرة في مرسيليا التي تحتضن الفنون غير المكرّسة والأداء الشعري الحيّ. هنري ديلوي كان هناك. عرّفنا جوليان ببعضنا، وبمرحه وكرمه المعروف، قال: "لديكُما الكثير من العمل اليوم".
بعد عشرين عاماً من ذلك، وفي مرسيليا أيضاً، جاءني هنري إلى "مانيفستن"، وهو مقهى جمعيّاتي وفضاء ثقافي مستقل أطلقتُه قبل قرابة عام، وقد راق لهنري وبات يحبّ التردّد عليه، مُعظم الوقت بصحبة ليليان جيغودون وجان جاك فيتون.
في ذلك الصباح، كان المقهى مغلقاً، ولكن كانت قد وصلتني نسخ من آخر إصدرات منشورات "أل دانتي": "ما هو أنت"، كتابٌ للشاعر الهولندي هرمان غورتر، بترجمة هنري وبنته ساسكيا. قلّبنا معاً صفحات الكتاب، علّقنا على مقاطعه ونحن نحتسي مشروباتنا، ثم جَمَع النسخ التي سيأخذها في حقيبة شراءات، لا شك أنها ذاتُها التي يتسوّق بها.
بابتسامة تساعد في إيصال فكرته، قال لي: إنه مهمٌّ اليوم أن نذكّر أن السياسة يمكنها أن تتصارع هي الأخرى مع الشعر (هرمان غورتر كان ناشطاً ثورياً مقرباً من السبارتاكيين في ألمانيا ومن زعيمتهم روزا لوكسمبروغ). أتذكّر اضطرابي حين رأيته يستعدّ للمغادرة، يرتدي معطفه العازل للماء ليصبح من غير الممكن أن يتعرّف عليه أحد، كما يعرف كيف يفعل ذلك المناضلون في الظل والمقاومون: حقيبته كان يمكن أن تحتوي على الكتب أو الفواكه... أو أي شيء آخر.
كثيرا ما عدتُ إلى صيغة تلك العبارة التي وردت على لسانه: إنّه مهمٌّ اليوم (Il est important aujourd'hui)...
في نهاية 2015، كنّا نعيش على وقع المظاهرات ضد إعلان حالة الطوارئ. فكّرتُ مثل كثيرين، أن هنري كان يردّد طوال حياته: "كم هو مهمٌّ اليوم...". مثلما في خمسينيات القرن الماضي، حيث أدار مجلة "أكسيون بويتيك"، كما في الستينيات حين أشرف عل تلك السلسلة الرائعة "شعر البلدان الاشتراكية" ضمن "منشورات بيير جان أوسفالد" مانحاً للقراءة نصوص شعراء سلوفاكيين وروس وألمان ومجريين وآخرين، في فرنسا كانت وقتها مرهونة للشوفينيين ومناهضي الشيوعية. وكما في السبعينيات حيث أدار نفس السلسلة مع "دار فرانسوا ماسبيرو" مع جاك روبو ثم إليزابيت رودنسكو. وكما في كل عمل يُصدره عن شاعر من بلد آخر، من قارة أخرى، كان يعرف كيف يجعلنا نلتقي بالآخرين رغم حواجز السياسة، والاقتصاد، واللغة، والجغرفيا...
هنري، لا توجد مكتبة في العالم لست موجوداً فيها، سواء عبر شِعرك أو ترجماتك أو أنطولوجياتك أو منشوراتك أو من خلال كتب كثيرة لا تحمل توقيعك ولكنها ظهرت للوجود بفضلك، بفضل قنوات الصداقة التي كنت تربطها بين أرجاء العالم.
هذه الروابط التي نسجتَها طوال حياتك تشكّل اليوم كتائب رفاقية تواصل مقاومة سموم عصرنا. معك حق، أكثر من أي وقت مضى: إنه مهمٌّ اليوم...
* Laurent Cauwet كاتب وناقد وناشط ثقافي فرنسي،
** ترجمة: شوقي بن حسن