إميل سيوران.. تمارين عربية في المحاكاة

08 ابريل 2021
إميل سيوران في 1977 (لوي مونييه، Getty)
+ الخط -

على أيّ هوى وقع أحد أكبر "أساتذة اليأس" في زمننا كي يجد استقبالاً عربياً مُرحِّباً؟ ربما ما يفسّر الطلب على إميل سيوران (1911 - 1995) هو اليأس نفسه. وها أنّ ترجماته العربية تتتالى، وآخرها "تمارين في الإعجاب" (2020). مرّة أخرى، يصل سيوران إلى لغة الضاد من خلال الشاعر التونسي آدم فتحي (وعن منشورات "الجمل")، كخامس عمل يترجمه فتحي لسيوران بعد "تاريخ ويوتوبيا" (2010)، و"المياه كلّها بلون الغرق" (2013)، و"مثالب الولادة" (2015)، و"اعترافات ولعنات" (2018).

يمكن أن نضع ترتيب الترجمات هذا في مقارنةٍ مع سلّم سنوات الإصدار الأصلية، فنجد أنّ هذه الأعمال ملتقَطَةٌ من فترات متعدّدة من مشوار سيوران الإبداعي، لكنّها لا تتيح أن نلامس تطوّرات الكاتب الروماني - الفرنسي. فقد صدر "تاريخ يوتوبيا" أوّل مرة عام 1960، وظهر كتاب "المياه كلها بلون الغرق" كخيار عنونةٍ مختلف عن العنوان الأصلي "مقايسات المرارة"، وقد صدر في 1952، فيما نشر سيوران "مثالب الولادة" عام 1973، وكان "تمارين في الإعجاب" و"اعترافات ولعنات" من كتاباته المتأخرة، فقد نُشرا في 1986 و1987.

لم تلامس سلسلة ترجمات آدم فتحي، حتى الآن على الأقل، بعض "مناطق" صاحب "سقوط في الزمن"، أهمّها مرحلة التشكّلات الأولى، والتي اعتمد فيها سيوران لغته الأمّ في أعمال مثل "على قمم اليأس" (صدر في 1934)، و"كتاب المغالطات" (1936)، و"دموع وقدّيسون" (1937)، و"غسق الأفكار" (1940)، وهي منطقة يجوبها منذ سنوات شاعر تونسيّ آخر هو عبد الوهاب الملوّح، الذي نقل إلى العربية العملين الأخيرين. ولعلّه من الجدير أن نلاحظ أنّ هذه الأعمال لم تحظَ بإشعاع عربي مثل ذاك الذي حظيت به ترجمات فتحي.

ونلاحظ هنا أنّ الفترة الرومانية ثريّة جداً. وقد نفسّر تأخّر وصول هذه الأعمال إلى العربية بكونها أتت بلسان ثقافة لم يمدّ العرب معها الكثيرَ من الجسور، لكنّ هذه الأعمال وصلت إلى الفرنسية بعد سنوات ولم يعد من الممكن فصلها عن بقية مدوّنة سيوران. وأبعد من ذلك، يصعب تفسير سياقات هذه الأعمال، حيث تحتاج إلى معرفة بتاريخ رومانيا الثقافي. على أنّ معظم الترجمات العربية - لا ترجمات سيوران وحدها - تكتفي بنقل النصوص من دون عناية كبيرة بالتربة التي نبتت فيها، وذلك جهدٌ ضروري لفهم كيفية تبلْوُر مشروع سيوران في مجمله، فالأعمال الرومانية تبدو كمخطّطات وضعها مبكّراً وسار عليها في بقيّة مشواره الفرنسي.

أنتج رغبة بمحاكاة أسلوبه الشذري لكن بلا أبعاده الفكرية 

وعلى الرغم من جهود آدم فتحي في المنطقة الفرنسية من مدوّنة سيوران، وعبد الوهاب الملوّح في الفضاء الروماني الأوّل، فإن إشكاليّةً كبرى من إشكاليات مدوّنة سيوران لم تُفَكَّك في الثقافة العربية بعد. ما الذي حدث بين 1944، تاريخ آخر إصدار بالرومانية لسيوران ("أدعيةُ المهزومين")، و1949، حين وضع أوّل أعماله بالفرنسية، "موجز التحلُّل"؟ هل يمكن أن نختزل الإجابة بتغيير سيوران لمكان إقامته؟ لكنّ المؤلِّف وصل فرنسا في 1937. هل هي رغبة في التموقع في الفضاء الثقافي الجديد؟ وهل يكفي استعمال اللغة الفرنسية وحده كي يدخل كاتبٌ إلى منطقة الضوء (سؤال يخصّ الثقافة العربية أيضاً)؟ من الجدير أن نشير هنا إلى أن أوّل ناشر لسيوران كان "دار غاليمار"، وهي واحدة من أبرز دور النشر في منظومة الكتاب الفرنسي.

على الأرجح أنّ سبب حسن الاستقبال الفرنسي هو ذاته السببُ العربي. ضرَب سيوران على وتر يحبّ أن يسمع الجميع أنغامه الحزينة؛ جعل من اليأس والكآبة والسخرية المُرّة - وهي عناصر من الأمر الواقع - ثيمات أدبية/ فكرية. ثمّ، إنّ كتابة سيوران لا تحتاج قارئاً متفرّغاً، فاشتغاله على البنية الشذرية كان في حدّ ذاته تعبيراً عن حالة من التشظّي في الواقع وجدت بسرعة آذاناً صاغية حين أدمجها في مقاربته لبناء نصوصه.

عبر الشذرة، بدأ سيوران يلامس كلّ شيء ممّا يدور في الحياة؛ يستطيع أن يتأمّل الحرب أو غربته الذاتية، ويمكنه أن ينقد الشعر، ثم يعود بالذاكرة معلّقاً على فكرةٍ فلسفية قرأها. هذه المرونة، التي أتاحها الشكل الأدبي الذي اختاره، تحوّلت إلى استثمار أدبي التقطه المؤلّف وناشروه. ولقد استطاع سيوران أن يخلخل ذلك الربط الجاهز بين الكتابة الشذرية والفيلسوف الألماني نيتشه، حاملاً هذا الشكل إلى أفق أوسع، وكان اشتغاله المتواصل عليه سبباً آخَر من أسباب امتلاك صنعته، حتى أنّ نجاحات كتاباته كانت مثل دعوة ضمنية لانتشار الكتابة الشذرية. حدث ذلك في الثقافة الفرنسية، والأمر نفسه في العربية، وإن بدت النتيجة هزيلة هنا، فقد بقي معظم ما يكتب ضمن هذا الشكل نابعاً من استسهاله.

لا يزال يصل إلى العربية عبر ترجمات انتقائية يضعها شعراء

هنا، يمكن أن نقف على سبب آخر من أسباب الاعتناء بسيوران في ثقافتنا، وهو أنّه يبعث رغبةً في محاكاته، شكليّاً من جهة، ومضمونياً من أخرى، حين يعتقد البعض أنّ في الإيغال في التشاؤم وذمّ الحياة والواقع ضمانةً لإنتاج كتابة فكرية، كما يعتقد آخرون أنّ الكتابة الشذرية وحدها ضمانة كي يكون الأدب أو الفكر ثورياً. هذه الظواهر المحاكاتية تحتاج إلى نظَرٍ عميق في ثقافتنا، فهي تفسّر الكثير من آليات الإنتاج الإبداعي. ليس الأمر متعلّقاً بسيوران وحده. لنعد بالذاكرة إلى ما فعله "الأرض الخراب" لـ ت. س. إليوت بين الشعراء العرب في منتصف القرن الماضي. ومن النماذج القريبة يمكن أن نرى أثر محاكاة بوكوفسكي في الرواية والقصة والشعر. وهكذا، لو نظرنا حولنا، سنجد الكثير مما يُكتَب كمجرّد محاكاة لأصل يجري إغفال الشروط العميقة لإنتاجه.

إذا عدنا إلى سيوران، سنجد أنّ كتاباته مسنودة بثقافة فلسفية متبحّرة. وهي ليست ثقافة قارئ عصاميّ. سيوران - بعبارة حديثة - باحث في الفلسفة قبل أن يكون كاتب شذرات، له دراسات في برغسون ونيتشه وكانط وشوبنهاور. وهؤلاء حين تحضر الإحالات إليهم في نصوصه يأتون مفكّكين، وبعد المرور من عملية هضم طويلة. ثمّ، ألا ننتبه إلى أنّ مَن تصدّى لترجمته إلى العربية شعراءٌ بالأساس؟ ألا يشير ذلك إلى أنّ ما وصل إلينا منه هو الجزء المرئي للشعراء وحدهم؟ إلى الآن، لا يزال سيوران يُقرأ للتلذّد، وقليلا ما يُقرأ كمنطلَق للتفكير. لعلّه ضحية لجناية التلقّي العربي لنيتشه نفسِها.

الأرشيف
التحديثات الحية