لطالما ألهمت حياة التشكيلي والنحّات الإيطالي أميديو مودلياني (1884 - 1920) الحركة الفنية بحقولها المختلفة، من التشكيل والتصوير مروراً بالسينما ووصولاً إلى الشعر. فحياتهُ القصيرة والصاخبة والتي تكلّلت بنهاية تراجيدية، ساهمت في أن يكون لأعماله بُعد إضافي لِما هي عليه. كما لم ينشغل به النقاد وهو على قيد الحياة وحسب، بل ظلّت أعماله وسيرته موضوعاً للنقاش والبحث، حتى بعد ما يزيد على مئة عام من وفاة صاحبها.
حتى بعد غدٍ الخميس، يستمرّ معرض "إلى مودلياني" الذي يوقّعه التشكيلي المصري ياسر نبايل (1970) في "غاليري ليوان" بالقاهرة، في محاولة لتمثيل مآس مختلفة، حيث يركّز نبايل من خلال خمس وعشرين لوحة على واقع الجنود في الحروب التي يعيشها الكوكب في يومنا الراهن، وبالأخص الغزو الروسي لأوكرانيا المستمرّ منذ عام.
وبقدر ما يشكّل العنف دماراً لا محدوداً للناس والمدنيين، إلا أنه أول ما يُصيب الجنود أيضاً، ويترك بصماته على حياتهم. وفي سبيل تصوير هذه المعاناة، استمدّ الفنان من حياة التشكيلي الإيطالي إطارَها العام، وبثّها بمقاربة حيوية بين أشخاص لوحاته التي تمتاز بضخامة الحجم.
ليست لوحات المعرض الضخمة سوى أطياف وذكريات لأُناس رحلوا
الأجواء السوداوية تلفّ أرجاء اللوحة، إعتام ودُكنة ظِلال تُشتَقُّ منها مروحةٌ من ألوانٍ متجاورة، لتُفصحَ عن مشهد يموج في بعضه بالبذلات العسكرية الزيتية، أو الجنود الذين يعتمرون الخوذات. هُنا، ليس مودلياني وحده المُلهِم، بل زمانه الذي عاش فيه أيضاً، بما فيه من نكبات وحروب، وعلى رأسها الحرب العالمية الأولى التي كان عُرضة لآثارها المدمّرة أثناء إقامته في باريس، المدينة التي اضطر لمغادرتها بسبب الحرب.
حالة الانقباض التي تتّشح بها الشخصيات تجعلها مسلوبة الإرادة أمام هول الحُزن، وهي رغم ضخامتها، إلا أنها لا تخلو من مسحة شبحية تجعلها مُشظاة الملامح، إذ تتداخل الوجوه بالعمائر والأبواب والظلال، في وحدة موحشة تجعل الانتقال من لوحة إلى أُخرى شكلاً من أشكال إشاحة النظر عن أشياء أثيرية، لا يمكن أن تكون صلبة حقاً كي يُقبض عليها، وهذا الأثيري ينفتح على مرادفات له كالأطياف والأشباح والأرواح، إلّا أن ما يوحّد بين كل ما سبق، هو شيء بسيط ومفهوم جدّاً، إنها الذكريات. أما هذه الأطياف ليست إلّا الرّاحلين وقد عادوا ليمرُّوا - على طريقتهم - بالديار من جديد.
وكما كلّ استلهام لا بدّ من عقد مقارنة ولو سريعة بين حدّه، وبالتالي يصحّ السؤال عن حضور مودلياني أسلوبياً في المعرض، هل هو الحضور الطيفي أيضاً، أي أنه يكتفي بالمراقبة وحسب، أم أنه يمتلك القدرة على التدخّل في هيئة الشخصية المرسومة، وأن يلوي آلية تشكيلها لتبدو مثل بورتريهاته الشهيرة؟ في الحقيقة حافظ نبايل على مسافة أمان من أسلوب مُلهِمه، كما أبرز كينونةً خاصة انحاز فيها إلى الحاضر الذي ظلّ محتفظاً بمركزيته، وقادراً على الانطلاق منها.