إغلاق "بارادوكس": مفارقات الحياة الثقافية في سوسة

12 فبراير 2021
من "بارادوكس"
+ الخط -

ظاهرياً، تبدو مدينة سوسة مؤهّلة كي تكون من أنشط المدن التونسية ثقافياً، بما لديها من موقع جغرافي وبنى تحتية وكثافة سكانية وإقامة عدد لا بأس به من المثقفين فيها. رغم كلّ ذلك، فالأمر مختلف تماماً على أرض الواقع، حيث أن الحياة الثقافية فيها تعمل في حدودها الدنيا. 

كان إغلاق فضاء "بارادوكس" - بداية العام الجاري - إشارة جديدة تكشف الواقع الثقافي للمدينة. ربّما تفسّر انعكاسات انتشار فيروس كورونا هذا الإغلاق بتقلّص المرتادين، لكن الإغلاق يظلّ منسجماً مع المناخ الثقافي المختنق للمدينة، ولعلّ أحد تجلّياته الأخرى مرور خبر الإغلاق دون أن يثير انتباه الإعلام المحلّي أو يُحدث انشغالاً واضحاً لدى المجتمع المدني.

افتُتح "بارادوكس" في 2015 متخذاً من إحدى الفيلات الكبرى لمدينة سوسة مقراً له، وسرعان ما بدأ يستقطب الزوّار بما يتيحه من نقاشات وورشات مسرحية وفضاءات قراءة، ناهيك عن تصوّر عام للمكان يُدمج الزائر ضمن كل هذه المقترحات الإبداعية.

مرّ الإغلاق دون أن يثير انتباه الإعلام المحلّي أو يشغل المجتمع المدني

من بين الأنشطة التي قدّمها "بارادوكس" احتضانه لفعاليات مجموعة القراءة "عشّاق الكتب بسوسة" كنوعية من الأنشطة الثقافية غير التقليدية. في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول حلمي الشيخاوي وهو أحد أعضاء المجموعة: "تعود علاقتنا بفضاء "بارادوكس" إلى سنة 2017. في ذلك الوقت كان هاجسنا هو البحث عن فضاء خارج الأطر  التقليدية  لتحرير الخطاب المعرفي من سجونه "المؤسّساتية"، وقد ساهم "بارادوكس" في احتواء مشروعنا، مشروع المطرقة النيتشوي، وأمدّه بأبعاد جمالية كنا نحتاجها". 

يضيف الشيخاوي: "أصبح بارادوكس بمثابة  "المسكن الحلمي" لمجموعتنا، إذا استعرنا عبارة غاستون باشلار، ولفظ المسكن دقيق هنا، لأن فضاء "بارادوكس" هو في الأصل مسكن تم تحويله إلى فضاء ثقافي، بما يتيحه المسكن من حميمية جعلت كل لقاءاتنا تدور في أجواء دافئة وتلقائية. من ناحية أخرى، انبنت علاقات إنسانية متينة بيننا وبين المشرفات على الفضاء".

وحول تلقّيه لخبر إغلاق الفضاء، يقول الشيخاوي: "تلقّيتُ الخبر بشيء من الحزن، وأعتقد أن هذا الحزن لم أشعر به لوحدي، فمثلاً اتصل بي صديق وقال لي إن الخبر قد آلمه، واعتبره من أسوء ما حدث سنة 2020 رغم كل ما سبّبته الجائحة". 

وحول الفضاء الذي سيحتضن الأنشطة الجديدة للمجموعة، يشير الشيخاوي إلى قلة الأماكن التي تتوفّر فيها اشتراطات العمل الثقافي الخارج عن المألوف، مشيراً إلى أن أفضل الخيارات إلى اليوم هي مبادرات فردية أتت من أشخاص يفتحون بيوتهم للقاءات ثقافية، لكنه يضيف هنا: "نحن الآن في مرحلة من  التريث إلى حد التعرّف على كل الفضاءات الموجودة هنا في سوسة، والتي قمنا بزيارة معظمها، على أن نقرّر مع نهاية هذا الشهر أين سنبني عشّنا الجديد".

نلمس نفس الحسرة على إغلاق "بارادوكس" ليس فقط لدى أعضاء مجموعة "عشاق الكتب بسوسة"، بل أيضاً لدى متابعين سبق وأن زاروا الفضاء مثل سنان غرازة، وهو مكتبيّ تونسي مقيم في ميونخ الألمانية، يشير إلى أنه تعرّف على "بارادوكس" منذ أربع سنوات.

يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "حضرت أوّل مرة بشكل أقرب للمصادفة في أحد أنشطة مجموعة القراءة. شدّ انتباهي وقتها تلك الروح الحميمية للمكان والتي تقطع مع النزعة الرسمية لمعظم الفعاليات الثقافية التي نجدها في تونس وباتت تنفّر أكثر من كونها تستقطب الجمهور. لمستُ أيضاً حسن استقبال السيّدتين المشرفتين على الفضاء؛ أمر قد يبدو بسيطاً وبديهياً ولكنه شبه غائب عن فضاءات الثقافة عندنا".

خسارة كبيرة لمشروع نجح في إطلاق هواء نقيّ في الأنشطة الإبداعية

يضيف محدّثنا: "تأسّفت كثيراً لإغلاق الفضاء. إنها خسارة كبيرة لمشروع تأسّس بالفعل ونجح في إطلاق هواء نقيّ في الأنشطة الإبداعية، وتقديم تصوّر مختلف للفضاء الثقافي وأدواره، مقارنة بما يقدّم في "الغرف المغلقة" للثقافة الرسمية. أجد أن إغلاق هذا الفضاء يعني مزيداً من بثّ الإحباط. مؤلم أن يأتي خبر الإغلاق بعد أن تربّى الأمل بتنشيط الحياة الثقافية في سوسة ومنطقة الساحل بمفردات جديدة".

وعن سؤالنا عن تفسيره لصعوبة تأسيس حركية ثقافية في سوسة رغم ما تتوّفر عليه من إمكانيات، يجيبنا بالقول: "هناك نوع من الاعتياد على أنه في حال كان يوجد نشاط ثقافي فهو في تونس العاصمة. حتى المثقف والفنان الذي يعيش في سوسة بات يعتقد أنه كي يكون مرئياً عليه الذهاب إلى العاصمة. وأوسع من ذلك، هناك نظرة سائدة بأن الساحل هو فقط منطقة ذات بعد اقتصادي".

يرى محدّثنا أن هذا المنطق قد يكون سبباً بعيداً في بقاء تجربة "بارادوكس" معزولة وغير قادرة على تحرير الطاقة الإبداعية لمدينة سوسة، مؤكداً في نهاية حديثه على أن "الحركية الثقافية لا يمكن إنجازها بموظّفي وزارة الثقافة وهياكلها، بل تحتاج إلى مبادرات ومغامرات فردية وجماعية".

المساهمون