لا شكّ في أن الثالث والعشرين من كانون الأول/ يناير الجاري يوم حزين في تاريخ الإسكندرية. إنه اليوم الذي أغلق فيه أحد أعرق الفضاءات الثقافية للمدينة؛ "الأتيليه"، الذي كان مقراً لـ"جمعية أدباء وفناني الإسكندرية". بعد هذا الإغلاق لا يمكن ألا نشعر بتشريدٍ للثقافة وتبديد للذاكرة الثقافية في مدينة لا تنفك تخسر سحرها بمرور العقود.
نلمس ذلك ونحن نقرأ، في ذات اليوم، ما كتبه الفنان التشكيلي علي عاشور في تدوينة في صفحته على فيسبوك: "يوم حزين.. وداعاً أتيليه الإسكندرية، صرحاً ثقافياً وإبداعياً ومعمارياً لا أبالغ إذا قلت إنه خسارة إنسانية فادحة".
وكتبت إحدى مرتادات "الأتيليه"، مارييت مرقص، على صفحتها: "سياسة انظر العصفورة تتكرّر كل يوم. هل هي صدفة أن يحدث ثوران هذا "الترند" البائس حول فيلم "أصحاب ولا أعز" مباشرة قبل إغلاق أجمل ملتقى ثقافي في الإسكندرية للأبد ولم يهتم بذلك أحدٌُ من الذين اهتموا بالفيلم".
باتت الإسكندرية تستدعى في الفن والأدب في شكل مرثيات أساساً
ومن لندن، كتب الشاعر فكري عياد قصيدة قدّمها بقوله: "تعيش الإسكندرية في عتمة دوامة المسلسلات التي شملت بعض مرافقها التاريخية، أكتب من نبض مشاعري هذه المرثية"، ونقرأ من القصيدة:
"يا لوعة الحزن وحُرقة قلبك يا مدينتي..
فراق ابنك من أحضانِكِ.
أَخَذوهُ.. اغتالوه.. انتزعوه من صدرك..
صَمَتَتْ كل الأفواه.. ولسانكِ بورقة بالية كَمّمُوه".
كيف يُمكننا أن نقرأ هذا التفجّع على مصير مدينة مثل الإسكندرية، ولعل أبرز ما يُكتب أو يُروى عنها - قبل إغلاق الأتيليه بكثير - هو هذه المرثيات؛ تجلى ذلك من أفلام يوسف شاهين إلى روايات إبراهيم عبد المجيد.
يُذكر أن مثقفي الإسكندرية قد قاوموا إغلاق الأتيليه لسنوات، كان أبرزها إطلاق حملة العام الماضي، سمّيت بـ"لا لاغتيال هرم الإسكندرية"، بعد صدور الحكم القضائي بإخلاء المبنى الذي يعود بناؤه إلى أكثر من مئة عام، بعد مطالبة مالكيه باسترجاعه. لم تقتصر الحملة على المطالبة بالإبقاء على المبنى كفضاء ثقافي بل كانت أولويّتها هو منع هدمها، فمن المعروف أن الكثير من المباني الفريدة في الإسكندرية قد جرى إخلاؤها في مرحلة أولى، ثم تركها عرضة للإهمال، ومن ثمّ إصدار قرار هدمها ومن ثمّ تسوّى بالأرض وتتحوّل لاحقاً إلى عمارة.
يذكّرنا مصير "الأتيليه" بأحداث مسلسل "الراية البيضاء" (1988، إخراج محمد فاضل عن نص لأسامة أنور عكاشة) والذي يروي قصة رجل مثقف يرفض كل الإغراءات المالية التي عُرضت عليه للتفريط في فيلا أثرية. بدا أن إثارة الموضوع عبر الدراما التلفزيونية قد يؤتي أُكله في توعية الدولة والمجتمع بضرورة حماية ميراث الإسكندرية المعماري، ولكن ما حدث مع "الأتيليه" يثبت أنه لم يكن هناك أثر لهذا الوعي. لعله من الوجيه أن يجدّد الفنانون حملاتهم عبر ملامسة مشاعر الناس وليس من خلال الدعاوى القضائية.