ضمن محاولات عديدة قام بها مستعربون أوروبيون، تُعاد قراءة تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية في سياق التفاعل بين مؤثّرات رومانية وقوطية وإسلامية، حيث أسّس الأمويون حكمهم منذ بداية القرن الثامن الميلادي بعناصر من العرب والبربر والإسبان والصقالبة، وبرز هذا التمازج بدءاً من استخدام اللغة اللطينية (مزيج من عربية ولاتينية) في الحياة اليومية والشعر والغناء، ووصولاً إلى مشترك ثقافي من العمارة ومؤلّفات الفلسفة والأدب لا تزال شواهدها قائمة إلى اليوم.
يستكشف معرض "إسبانيا والعالم من أصل إسباني"، الذي افتُتح في الحادي والعشرين من الشهر الماضي في "الأكاديمية الملكية للفنون" بلندن، ويتواصل حتى العاشر من نيسان/ أبريل المقبل، فنون خمسة آلاف عام من الحضارات التي قامت على الأراضي الإسبانية. ويثير المعرض جملة تساؤلات تتعلّق باختزال ماضِ ممتدّ جدّاً بمئة وخمسين عملاً فقط، اختارها المنظّمون لتقديم صورة "شاملة" عبر مُجاورة عصور مختلفة، لكن دون بذل جهود موازية في استيعاب صراعات حضارية عاشتها بلاد لم تخضع لمراجعات جذرية من أجل تأسيس عقد مصالحة حقيقية في ما بينها.
يتم القفز على فترة تعايش استمرّت مئات السنين بين سكّان الأندلس
ورغم تجاور معروضات تعود أقدمها إلى ألفي عام قبل الميلاد، مع أخرى تنتمي إلى العصور الوسيطة؛ قوطية وإسلامية، وثالثة تضيء أزمنة حديثة، إلّا أنها مستعارة من "متحف ومكتبة المجتمع الإسباني في نيويورك"، وهي مؤسّسة مكرّسة لاستكشاف تاريخ إسبانيا وإرثها الاستعماري.
ويتمّ القفز أيضاً على فترة تعايُش استمرت لمئات السنين بين سكّان الأندلس، بحيث تُحيل القِطَع الفنية والوثائق التي تمثّلها إلى مجرّد فولكلور هامشيّ انسحب على نحو ملتبس وغير مفهوم مع الهيمنة الكاثوليكية على جميع أشكال الفن بدءاً من القرن السابع عشر، سواء في المدن الإسبانية أو في أميركا اللاتينية التي وقعت تحت استعمار إسباني دموي قام بإحلال ثقافته الدينية واللغوية قسراً.
هل يكفي عرض خرائط لإسبانيا المسلمة قبل القرن الخامس عشر، ومربّعات زخرفية لا تزال موجودة في المدن الأندلسية المسلمة، لتثبيتها كجزء أساسي من الشخصية الإسبانية المعاصرة أو هويتها الوطنية؟ خاصّةً أنّ جميع ما يُعرض قد جمَعه آرتشر إم هنتغتون، أحد الصناعيين الأميركيين، والذي كان شغوفاً بالثقافة الإسبانية وتاريخها الاستعماري في آسيا والعالم الجديد، وتعلّم اللغتين العربية والإسبانية، ما دفعه لاقتناء كتب وخرائط وخزفيات ولوحات تمثّل تلك الثقافة ما بين عاميْ 1900 و1930.
يشاهد الزائر قطعاً فخارية صُنعت خلال العصر البرونزي الأوروبي، وكذلك لوحات فسيفسائية وتماثيل رومانية اكتُشفت في إشبيلية، مع مجوهرات ومصوغات تعود إلى عصر القوط خلال وثنيتهم، إلى جانب أيقونات كنسية صُمّمت بعد اعتناقهم المسيحية، ومنسوجات حريرية وسيراميك وأوانٍ فضّية وزجاجية أندلسية، وخريطة العالم الشهيرة التي رسمها الرحّالة الإيطالي جيوفاني فسبوتشي عام 1526 لحساب بلاط مملكة قشتالة التي قرّرت غزو الأميركيتين بعد طردها المسلمين من إسبانيا.
كما تُعرض لوحات لفنانين إسبان منهم لويس دي موراليس (1509 - 1586)، وإل غريكو (1541 - 1616)، وفرانسيسكو دي زورباران (1598 - 1664)، ودييغو فيلاسكيز (1599 - 1660)، و فرانثيسكو غويا (1746 - 1828)، وخواكين سورولا (1863 - 1923)، وغيرهم.