إجرامٌ على الأرض وفي الشاشات

15 أكتوبر 2023
شيخٌ فلسطيني وسط الأنقاض في خان يونس، 14 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

تتعرّى جثثُ النفسيات في الحضارة الغربية من وقتٍ إلى آخر لتُطلَّ علينا بالبشاعة والجريمة التي تُخبّئها تجاه الحضارات والثقافات الأُخرى. وحتى يستقيم الميزان، لا بدّ من القول إنّ الحضارة الغربية هي حضارة متعدّدة الوجوه، وليست كلّها ظلاماً، وأناسها ليسوا كلّهم ظُلّاماً. لكنّ المنظومة السياسية والإعلامية والثقافية التي تكتنفها يعشّش فيها ظلامٌ وقهرٌ وفساد.

ومن هنا فإنّ خطاب كثيرٍ من وسائل الإعلام تجاه ما يجري في غزّة وفلسطين من قتل وتهجير وعنف ممنهج من قِبل "إسرائيل" وداعميها في الغرب، في هذه اللحظات الحالكة والمُفجعة، هو خطابٌ إجراميُّ لا يُغتفر؛ وهو يُذكّرنا بثقافة ومنهجية المجازر التي ارتكبتها كثيرٌ من البلدان الغربية المستعمِرة سابقاً، مثل الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا ضدّ المستعمَرين والمعذَّبين في الأرض، وكذلك نشوءُ بعض من هذه الدول مثل أميركا وأستراليا وكندا على جماجم الآخرين، مثل السكّان الأصليّين في تلك البلدان.

و"إسرائيل" هي حلقة من حلقات تدمير وإبادة السكّان الأصليّين الذين تقهرهم وتعربد وتعيث فساداً في كلّ تفاصيل حياتهم. ولا نستطيع فهم الإعلام الغربي بجُلّه من دون فهم تلك الخلفية والعقلية التدميرية التي تكتنزها هذه الثقافة. وإلّا كيف يُفسَّر هذا التضامن مع "إسرائيل" من قِبل المنظومة السياسية والثقافية والإعلامية الغربية، بينما هم يرون على شاشاتهم معاناة ودمار الفلسطينيّين لسنوات طويلة في غزّة، ويشاهدون التهجير والقتل يُبثّ بثّاً حيّاً على شاشات التلفزيون؟

نتذكّر كيف أنّ بعض دول الغرب نشأت على جماجم الآخرين

ينقشعُ الغبار ويتكشّف عن كثير من وسائل الإعلام الغربية التي تمارس الإجرام جنباً إلى جنب مع المنظومات السياسية، فيكذبون ويزوّرون الحقائق، ويغوصون في وحل الدعاية الإسرائيلية التي تلعب دور الضحية منذ وُجدت، من دون أن يعيروا اهتماماً لحياة الفلسطينيين التي تتحكّم فيها "إسرائيل"، وتُقنّنها تقنيناً مقيتاً، بينما يبدأ تاريخ الصراع بالنسبة إلى هؤلاء من يوم السبت، حين هاجمتْ كتائب الشهيد عز الدين القسّام مستعمِريها وأوجعتهم، وإن حدثت تجاوُزات إنسانية مرفوضة في تلك اللحظات، فإنّها تُهوَّل وتصبحُ كلّ شيء. أمّا الحقّ في المقاومة المكفول في القانون الدولي فينتفي ذكره، وأمّا قتل وتعذيب ومحاصَرة آلاف الناس في غزّة وعموم فلسطين لعقود طويلة، فلا يستحقّ الذِّكر، وإن ذُكر فهو كأنّه مشكلة بسيطة، وليس بوصفه أساس البلاء الاحتلالي والاستعماري الذي حلّ على فلسطين منذ 1948.

يُذكّرني ذلك بما قاله المفكّر الإيطالي جورجيو أغامبين عن الحياة المهترئة والعارية التي تُستنزف من كرامتها ومعناها على أيدي من يمتلكون القوّة والإعلام والأذرع المالية. فتلك قوّة، و"إسرائيل" في صميم هذه المنظومة، استعلائية وفوقية وبشعة في رؤيتها للآخر، خصوصاً ذلك الذي يقاومها ويناهضها من أجل نيل الكرامة والحرية.

الحياة المُهترئة التي يفرضها الاحتلال وعقلية الاستعمار الغربي، وخصوصاً في غرب ووسط أوروبا وفي أميركا وأستراليا وكندا وغيرها، وتابعوهم من العرب رخيصي النفوس، هي حياةٌ أقلّ ما يُقال عنها إنّها هامشية... هي حياة اسماً وليست فعلاً أو وجوداً يتطوّر ويسمو كرامةً وروحاً.

في الختام، فإنّ التوحُّش الإعلامي الغربي تجاه الفلسطينيّين في غزّة هو الحاضنة للتوحّش الإسرائيلي في غزّة، وهو الحاضنة للاحتلال منذ وُجِد، وهذه حقيقة تتطلّب فهماً، علّ ذلك يفتح الطرق لمجابهتها في هذه اللحظات اللعينة والمأساوية على أهلنا في غزّة وعموم فلسطين.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
 
المساهمون